الحلقة الرابعة: العلمانية و ما جنته على المدنية الإسلامية

المدينة الإسلامية: ردود على السيد وليد

 

الحلقة الرابعة: العلمانية و ما جنته على المدنية الإسلامية

 

د. مصطفى بن حموش

 

أستاذ مشارك، عمارة إسلامية

 

بجامعة البحرين

 mbenhamouche@eng.uob.bh

  من المفارقات الفكرية المعاصرة أن يتهجم العلمانيون العرب على المستشرقين ليس بسبب تحامل العديد من هؤلاء على الإسلام و آرائهم الجائرة أحيانا في دراساتهم للحضارة و المدن الإسلامية، وإنما باتهامهم بتقديم العون الأكاديمي للفكر الإسلامي و التنظير له! ففي اعتقاد بعض هؤلاء أن مصطلح المدنية الإسلامية هي من صنع المستشرقين، الذين سعوا جاهدين لإسقاط النخبة العربية و الإسلامية في تلك الدراسات  و جرّهم إليها. و قد سبق التأصيل للمصطلح في حلقة سابقة و تأكيد صلاحيته الأكاديمية، ثم إبراز مجاله الدراسي.

و لذلك فإن الرد على السيد وليد في هذه المقالة لا يعني اتهامه بالعلمانية. فمقالاته تشهد له اهتماماته المتزايدة بدور الدين في فهم الظواهر العمرانية. غير أن بعض ما جاء في مقالاته عن "المدينة الإسلامية" تدفعنا إلى الاستنتاج أنه لجأ من غير قصد  إلى أدوات الفكر العلماني. فمحاولة إبعاد النصوص التشريعية عن العمران ودفعها بكل الأوجه، هو روح هذا المنهج الذي يعتبر الدين مسألة شخصية في حياة الأفراد لا دخل لها في الشؤون المدنية. و سنقوم في هذه الحلقة بالرد على مذهب العلمانية في فك الظاهرة العمرانية في بلاد الإسلام عن الدين، خاصة تلك المقولات التي توظف النص الديني في خطابها. 

استحالة فصل المدينة عن الدين

 من الضروري بداية تفنيد فرضية استقلال المدينة كظاهرة بشرية عن الدين من خلال أدلة لا تقبل النفي. فالكثير من الظواهر العمرانية في المدن القديمة لا يمكنها أن تفهم خارج حيزها الديني أو على الأقل التأثير المباشر أو غير المباشر له فيها. و سنؤكد هنا أن الدين كان حاضرا على مستوى مؤسسات الإدارة  بل و الحكم المحلي، و كذلك في سلوك الأفراد و المعاملات المدنية بالإضافة إلى البعد التعبدي و  العقائدي الذي يقرّه حتى العلمانيون. فمبدأ الأوقاف الذي ذكر سابقا كان يغطي  جميع الاحتياجات الاجتماعية والثقافية و المعيشية للمجتمع المدني من مدارس و مساجد و مستشفيات و مساكن و جسور و عيون ماء و غيره ما الحاجات العمرانية كان يرتكز أساسا على الوازع الديني الذي كان عاملا أساسيا في الحياة المدنية كونه  يحدّ من أنانية  الفرد و يدفعه للتنازل عن ملكياته لخدمة المجتمع اعتقادا في الأجر و الثواب الذي وُعِد به غيبا. و قد تطورت الأوقاف بفعل تكاثرها من جهة، و تنوعها من جهة أخرى إلى مؤسسات إدارية محلية في كل مدينة. أما مبدأ الحسبة الذي يعود أصله إلى مبدأ "الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر" و الذي يمكن تعريفه على أنه المراقبة الحضرية فقد كان يشمل ترتيب الأسواق و الرقابة الحضرية على نوعية الحياة المدنية و حفظ جودة الخدمات و السلع و  المرافق و السلامة من الأخطار و الغش و الأضرار وفق مبادئ الشريعة. و باعتبار العمران مجال تتشابك فيه الحقوق الآدمية فقد كان للمؤسسة القضائية الشرعية و الإفتاء دور مباشر في إدارة المدينة و الحياة اليومية و ضمان مشروعية المشاريع العامة و الدفاع عن الأفراد في مواجهة السلطة العامة وذوي السلطان. و هكذا نجد وراء كل مظهر من مظاهر العمران في المدن القديمة مبدأ من مبادئ الإسلام سواء التشريعية أو العقائدية أو الأخلاقية. و من هنا نجد بوضوح كيف ارتبطت الأخلاق و الوصايا الدينية المثالية مثل تحريم الغش و الحث على الجودة، التي استبعدها السيد وليد في تحليلاته، بالمنظومة الإدارية و النظام العمراني ككل.وفق هذا المنظور يمكن تتبع أثر الدين في الكثير من تفاصيل المدينة و ذلك مثل عناصرها الإنشائية و هندستها الحضرية و تركيبها المعماري و نظامها الوظيفي. فماء السبيل مثلا الذي تمتلئ به شوارع المدن القديمة، و التكايا و الزوايا التي كانت تنشآ في مختلف أطراف المدينة التي نشأت لإيواء عابري السبيل، و وجود العائلة الواحدة ذات الأجيال المتلاحقة في مكان واحد بحكم مبدأ القرابة و صلة الرحم الذي وضعه الإسلام ضمن مقاصده،  و تمركز المسجد وسط المدينة الذي يعطي الفرص المتكافئة للجميع للوصول إليه و الذي يهيمن على النظام الهندسي للمدينة بتوجه المميز نحو القبلة كما هو الشأن في مدينة إصفهان مثلا، كلها دلالات محسوسة لأهل التخصص من المعماريين و المخططين لإملاءات أحكام الإسلام على مورفولوجية المدينة.

بعيدا عن المؤسسات، نجد الأثر كذلك للمنظومة الأخلاقية و السلوكية على  "المدنية الإسلامية". لقد اعتبرتها المناهج العلمانية منذ

 عقود مجالات  خارجة عن العلم كونها  من بقايا العلوم الدينية القديمة و اللاهوت. لكن مجالات و مناهج علوم ما بعد الحداثة

تقدم لنا وسائل جديدة لإعادة اعتبار هذه الأبعاد الخفية في العمران. لقد تحولت الأخلاق بفعل الممارسة اليومية في المجتمعات

القديمة إلى معايير ذاتية في المجتمع المدني و هو ما أصبح مادة بحثية لعلوم الأنثروبولوجيا و السلوكيات behaviour. و لذلك

 فإن الكثير من سلوكات الأفراد في بلاد الإسلام المشبعة  بالقيم الإسلامية لها ظلالها المباشرة على العمران. و من ذلك القرابة، و

 صلة الرحم، و الجوار،  و التواضع، و الاقتصاد أو عدم الإسراف، والإحسان و الارتباط بالسماء و بما وراء الطبيعة أو

الميتافيزيقا. فمن الأخلاق المرتبطة مباشرة بالعمران مسألة مراعاة حقوق الجوار ثم الإحسان إليه عن طريق الإرفاق. و قد كانت

لهذه القيم  أثرها المباشر في هندسة المدينة. و من ذلك طريقة بناء الجدران المشتركة و السماح للجار بالإسناد الذي يعود في

أصله إلى حديث أبي هريرة. كما كان لمبدأ التواضع و الارتباط بالجيران أثره في عدم التعلي  و تبسيط الواجهات و التقليل من

الزخرفة الخارجية و التحكم في ارتفاع المباني. أما مسألة الإحسان في ترشيد الاستهلاك فقد أدت إلى استهلاك الطاقة و الموارد

الطبيعية و الأرض بدقة متناهية تجسدت في التوظيف الدقيق و المتعدد للفراغ بحسب الحاجة و عدم التبذير. كما كانت مراعاة

الملكية العامة هاجسا للبعض بسبب الترهيب الذي جاء في الحديث النبوي عند اقتطاع جزء من أرض المسلمين بغير حق. فقد كان

الإمام أبو حنيفة النعمان عند صيانة بيته سنويا يعمد إلى نزع القشرة القديمة من جداره الخارجي قبل طلائه  بقشرة جديدة كون ذلك

 سيزيد من سمك الجدار على حساب الشارع العام استجابة لهذا الحديث.

العلمانية و أثرها في المدينة المعاصرة

 يرتبط تغلغل العلمانية في العمران، بتاريخ الصراع بين الدين بمفهومه الكنسي و المدنية (النون قبل الياء) الغربية. فقد سيطرت فكرة فصل الدين عن الدنيا على عالم السياسة، كما سيطرت على الفكر و الثقافة و العلوم و السلوك الشخصي. و لذلك فما يميز حياتنا المدنية المعاصرة هو هيمنة الفكر العلماني التي حلت محل  تلك المنظومات الأخلاقية و الثقافية والاجتماعية السائدة منذ قرون. و من الطبيعي أن يكون لاندثار تلك المنظومات أثرها المباشر في العمران البشري و تحوله من النظام التقليدي إلى النظام العصري الذي نعيشه. كما أنه من البديهي أن تفقد المدن القديمة إحدى مقوماتها الأساسية لتصبح بذلك هياكل فارغة يصعب فهمها و يسهل ازدراؤها.  إن الكثير من الظواهر العمرانية العصرية التي تشترك فيها مدننا العصرية تعود في أصلها إلى هذا التغير الجذري. فالأنسجة الحضرية المفككة نتيجة تباعد المباني عن بعضها في مقابل المباني المتضامة التي كانت في القديم، و التنافر المعماري الصارخ بين المباني المتجاورة في مقابل التجانس القوي في المدن العتيقة، يمكن أن تجد تفسيرها الأكيد في استثمار النزعة الفردية و غياب التوافق الاجتماعي الذي فسح المجال للطبقية، و طغيان السلوك الاستهلاكي في البناء و العمران، و اللجوء إلى القوانين الوضعية التي صنعها المنطق البيروقراطي. لقد أصبح تخطيط المدن من خلال المناهج المعاصرة يخضع ليد الدولة و موظفيها من مخططين و إدرايين و سياسيين مما أبعد السكان عن العملية و حوّلهم إلى أرقام صمّاء في أيدي هؤلاء، و إلى مجرد كتل من مستهلكين. كما غدت الاستجابة لحاجات المجتمع وفق البرامج و المنطق الكمي للتخطيط و الإحصاء و متوسط العدد الأسري و الإسقاطات المستقبلية بحسب معدلات النمو البشري، و هو ما أدركته الكاتبة الأمريكية جاين جاكوبس في حياة و موت المدن الأمريكية و أوسكار نيومن من خلال دراسة انعدام الأمن في المدن الأمريكية و كثيرون غيرها. كما أدى توسع سلطة الدولة على المجتمع إلى الإكثار من المؤسسات العامة التي تتولى المراقبة التخطيط و الإدارة و الهندسة الاجتماعية كما يراها ميشال فوكو و التي تجسدت كلها في البيروقراطية. و قد أصبحت المدينة بذلك تعاني من تضخم قانوني لم يسبق للتاريخ أن عاشته، بحيث أصبح لا يمكن للإداريين أنفسهم متابعة كل النصوص و معرفة ناسخها و منسوخها. ففي مقابل المراقبة الاجتماعية الذاتية لسلوك الأفراد، وضعت أجهزة الشرطة و الدرك و الجند و أخيرا الكاميرات لمنع المخالفات و رصد التجاوزات و ردع التصرفات. غير أنه في غياب ذلك الوازع الديني الداخلي، كثيرا ما يتحين الأفراد الفرص لخرق القانون كلما  سنحت الفرصة لذلك بغياب السلطة. و لعل نمو المناطق العشوائية دليل على ذلك.و في الوقت الذي توسع مجال القطاع العام في الفراغ العمراني حيث أصبحت الكثير من المباني و الساحات العامة و الشوارع و الأراضي الفارغة ملكا للدولة  فإن المسؤولية العامة أصبحت مبهمة و غير ناجعة بحيث أصبح الكل معني و لا أحد بعينه. و أصبح لزاما للحفاظ على نوعية البيئة الحضرية داخل المدن خاصة العواصم و الحواضر المهمة إنفاق أموال هائلة للصيانة و المتابعات البلدية.  كما اقتصرت اهتمامات المخططين و المصممين الحضريين في العمران المعاصر على الجانب الفيزيائي للمدن الذي يقيّم عادة بضوابط بصرية و برامج وظيفية محددة. فاقتصرت جهودهم على الاستجابة لمتطلبات مادية مثل خط السماء و المناظير و الواجهات الحضرية و  ارتداد الأبنية عن خط النظام و خطوط الملكية، و علاقة ارتفاع البناء بالارتداد، و معامل التشغيل و نسبة الانفتاح لمساحة البناء في المساحة الأرضية و الكثافة السكانية المقدرة سلفا، و التي طورها المخططون والمعماريون العصريون للتحكم في المدينة المعاصرة.أما من جهة المواطن العادي، فقد تقلصت دائرة اهتمامه تجاه بيئته الحضرية إلى داخل بيته و شرفته، تاركا المهمة للدولة و للمخططين و المعماريين وموظفي البلدية. إن عدم اكتراث المواطن بتخريب الممتلكات العامة مثل اللافتات و الهواتف العمومية و مقاعد المنتزهات و حنفيات الماء لا يمكن تفسيره إلا بغياب ذلك الدافع الداخلي الذي كان يتولد و يتجدد من مصدر الإيمان الغيبي و الاعتقاد بمسألة الأجر و الثواب و الخير و الشر. و لذلك فإن اللغة القانونية التي تلجأ إليها السلطات العامة و برامج التوعية التي تتبعها لحفظ الخدمات التي تقدمها لا يمكن أن تعوّض عن تلك المعايير الذاتية التي كانت تنمو في التربة الدينية، كون هذه اللغة تخاطب المواطن بمنطق ظاهري و إملائي  و قسري أحيانا.    لقد تورط الفن المعماري كذلك في مسألة العلمانية كونه أصبح امتدادا للمدارس الفنية المعاصرة التي تولدت من فلسفات الإلحاد و المادية و الوجودية. و لا غرابة في هذا القول لغير المعماري، كون كل الاتجاهات المعمارية ارتبطت بمدارس فكرية و فلسفية سائدة. و لعل ظهور تيار ما بعد الحداثة الذي  أخذ يعيد الاعتبار لبعض القيم القديمة عن طريق السيميائية و التاريخية  و الالتفات للمجتمع و القيم السلوكية كمصدر لاستيحاء الشكل المعماري هي إحدى ردود الفعل عن العلمانية و العصرنة. و تمثل مشكلة إهمال الخصوصية Privacy في عصرنا إحدى صور انزلاق الفن المعماري في فكر العلمانية. فالعمارات الزجاجية التي تطلّ على بعضها بحيث يرى الإنسان جاره و هو يتعرى ليستحم أو يلبس لباس نومه ليلا فيصبح تحت الأنظار دون أن يشعر أو يتحرج ما هو إلا قضاء على آخر قلاع الدين و الأخلاق في السلالة البشرية. لقد أثبت باحثون غربيون أن مسألة الخصوصية تتجاوز الدين الواحد لتصبح أمرا فطريا يحتاجه الإنسان كما هو واضح في كتابات كريستوفر ألكسندر "عن الخصوصية و المجتمع" و تي وارد هول عن الأبعاد الخفية في الفراغ المعماري. لقد حرمت العلمانية البشر من إحدى الحاجات الفطرية التي تحتاج إليها حتى الحيوانات.من الجانب الثقافي و في غياب ذلك الانسجام الاجتماعي الذي يمثل الأرضية  المشتركة الذي يسمى بالثقافة، أصبحت المدينة مسرحا لاستعراض الثروات و إبراز التميز و تكريس الاختلاف و التنافس و جلب الأشكال الغربية، و هو ما جعل للمعماريين دورا معتبرا من خلال تجسيد تلك الفروق عن طريق الواجهات و أنواع مواد البناء و الارتفاعات و غيرها من وسائل التصميم الإبداعية المغرية. و من هنا فإن الإبداع المعماري الذي يهيم به المعماريون حبّا قد أصبح آلة حادة تضرّ بالمجتمع و بالأعراف المعمارية السائدة و بالتجانس الثقافي و الاجتماعي.و مع أن العنان قد ترك لعقل الإنسان ليخترع ما يشاء من تقنيات و تخطيطات و تصميمات للمدن و المباني إلا أن البشرية لا تزال حتى في تلك البلاد المتقدمة تعاني من رداءة الحياة المدنية بل و خطر انقراض البشرية في المستقبل نتيجة تسارع الاستهلاك و الفساد في الأرض في غياب الوازع الداخلي لدى كل من المواطن و الإداري و صاحب القرار. و لعل مفهوم الاستدامة يعكس هذا الهلع العالمي المستمر الذي يحتل فيه قطاع البناء و العمران مكانة معتبرة. 

 

لا تعليقات

  1. من كردستان العراق لايوجد نشابه تام بين كل المدن الذي يعيش فيها الاسلام وانما يوجد اسبسب اخرى يتحكم في تلك المدت طالب فى كلية تخطيط المدن السليمانية

اترك رداً على abdul إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *