إعادة التفكير في السياسة المتعلقة بالفقر الحضري

  إعادة التفكير في السياسة المتعلقة بالفقر الحضري

النهج الخاطئة والسبل الجديدة

محاولة إبقاء الجموع خارج المدن: استراتيجية فاشلة

تلبية احتياجات الفقراء إلى المأوى

وثبة هائلة: تحقيق سيناريو جديد فيما يتعلق بالمأوى

تنظيم أسواق الأراضي الحضرية: هل هو مهمة مستحيلة؟

أنشطة الدعوة، الأصوات والعمل: الحاجة إلى قيادة

إضافة جرعة من الواقعية

الاستعداد للمستقبل

"إن إخراج الفقراء من المدينة بطردهم من بيوتهم أو تعريضهم لممارسات تمييزية ليس الحل. فالحل الوحيد المستدام الطويل الأمد لتفشي الفقر في المناطق الحضرية هو مساعدة فقراء تلك المناطق على الاندماج في نسيج المجتمع الحضري" .(1)

النهج الخاطئة والسبل الجديدة (2)

ينبغي للمخططين وواضعي السياسات، لكي يلبوا احتياجات سكان الحضر الذين تتزايد أعدادهم، ولكي يحفزوا كلاً من التنمية الحضرية والتنمية الريفية ويحققوا الأهداف الإنمائية للألفية، أن يعيدوا النظر في تحيزهم ضد النمو الحضري. فهذا التحيز غير فعال وكثيراً ما تكون نتائجه عكسية. وعلاوة على ذلك فهو يقف في طريق تحقيق المبادرات الرامية إلى الحد من الفقر.

وثمة أدلة واضحة على أن التحضر يمكن أن يلعب دوراً إيجابياً في التنمية الاجتماعية والاقتصادية. فالارتباط الإحصائي، تاريخياً، بين التحضر والنمو الاقتصادي كان ارتباطاً قوياً(3) . واليوم، توجد لدى المدن بوجه عام إمكانات أكبر من الإمكانات الموجودة لدى المناطق الريفية فيما يتعلق بالحد من الفقر. فالمدن هي الموقع الرئيسي للنمو الاقتصادي في معظم البلدان وتمثل حصة من الإنتاج الاقتصادي الوطني مرتفعة ارتفاعاً غير متناسب(4): "فالبلدان التي يغلب عليها طابع التحضر تتسم عادة بكون الدخول فيها أعلى، وكون اقتصاداتها أكثر استقراراً، ووجود مؤسسات أقوى لديها، فضلاً عن أنها تكون أقدر على تحمل تقلب الاقتصاد العالمي"(5).

والقرب والتركيز يمنحان المدن مزية فيما يتعلق بإنتاج السلع والخدمات وذلك بالحد من التكاليف، ودعم الابتكار، وتشجيع أوجه التآزر بين مختلف القطاعات الاقتصادية. ولكن القرب والتركيز ينطويان أيضاً على إمكانية تحسين حياة الناس مباشرة وبتكلفة أقل بالمقارنة بالمناطق الريفية: فعلى سبيل المثال، يمكن للمدن أن توفر لسكانها بأكملهم إمكانية الاستفادة من البنية التحتية والخدمات الأساسية بتكلفة أقل كثيراً. ونتيجة لذلك تقل بوجه عام معدلات الفقر الحضري عن معدلات الفقر في المناطق الريفية؛ وانتقال السكان من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية يكون فعلاً في صالح معدلات الفقر على الصعيد الوطني (انظر الإطار 13).

13

دور التحضر في الحد من الفقر(1)

من الشائع افتراض أن الهجرة من الريف إلى الحضر تعيد فحسب توزيع الفقر من الريف إلى المدن. إلا أن الحراك الاجتماعي يصاحب عادة الهجرة وتتدنى معها معدلات الفقر في كل من المناطق الريفية والحضرية في كثير من البلدان. وقد حاولت دراسة جرت في صندوق الأمم المتحدة للسكان أن تتناول بالفحص دور التحضر في هذه التغيرات. وقد قسمت الدراسة التحسنات في معدلات الفقر على الصعيد الوطني إلى ثلاثة مكونات هي: تدني الفقر الريفي، وتدني الفقر الحضري، وارتفاع نسبة السكان الذين يعيشون في المناطق الحضرية، حيث معدلات الفقر أقل.

وهذا الإجراء، الذي طُبق في 25 بلداً، بحيث يشمل مناطق وفترات مختلفة، يبين بوجه عام أهمية التحضر الممكنة في عملية الحد من الفقر بوجه عام. ووفقاً لهذا النهج، يبدو أن تأثير التحضر حتى تسعينات القرن العشرين كان عديم الأهمية إلى حد ما. ومع ذلك فإن انتقال السكان من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية منذ ذلك الحين كان يمثل حوالي 10 في المائة من الحد من الفقر على الصعيد الوطني، في المتوسط.

ففي بوليفيا، كان التحضر مسؤولاً عن 28.3 في المائة من الانخفاض في مستوى الفقر على الصعيد الوطني إبان الفترة 1999 – 2005، الذي بلغ 1.2 في المائة؛ كما أن نسبة قدرها 17 في المائة من انخفاض الفقر في البرازيل بنسبة قدرها 5.1 في المائة خلال الفترة من عام 1999 إلى عام 2004 كانت ترجع أيضاً إلى التحضر. وفي نيكاراغوا لم يتغير مستوى الفقر الحضري ومستوى الفقر الريفي على الإطلاق تقريباً خلال الفترة ما بين عام 1998 و 2001؛ ومع ذلك فقد انخفض مستوى الفقر على الصعيد الوطني بأكثر من نصف نقطة مئوية نتيجة للتحضر.

ومع أن هذه العملية الوصفية لا توفر أدلة قاطعة بشأن ما إذا كان التحضر يلعب دوراً مستقلاً في الحد من الفقر، فإنها تشير إلى أن التحضر يمكن، في ظل توافر الظروف الصحيحة، أن يكون مكوناً دينامياً من مكونات عملية الحد من الفقر على الصعيد الوطني، بدلاً من أن يكون مجرد صمام للإفلات من براثن الفقر الريفي.

ويدرك الناس مزايا الحياة الحضرية بالفطرة. وهذا يفسر سبب انتقال الملايين إلى المدن كل عام. ومع ذلك فإن كثيرين من المخططين وواضعي السياسيات في الدول التي يتسارع فيها التحضر يريدون أن يمنعوا النمو الحضري(6). وهذه المواقف لا تستند إلى أدلة: كما أن لها عواقب سلبية فيما يتعلق بالحد من الفقر. ويظل الحق في الإقامة في المدينة، الوارد تعريفه في الغاية 11 من الهدف 7 في الأهداف الإنمائية للألفية(7)، مراوغاً في مواجهة تحيز واضعي السياسات ضد توسيع نطاق ذلك الحق(8).

ولقد كانت ممانعة واضعي السياسات في قبول التحضر عائقاً يقف في طريق انسياب أوجه التقدم التي تتحقق بفعل التحركات الاجتماعية الحضرية. ففي السنوات الأخيرة حققت المنظمات المحلية لفقراء الحضر والمنظمات غير الحكومية تقدماً ملحوظاً في بذل جهود جماعية لتحسين الإسكان والبنية التحتية والخدمات، مما يخفف من الفقر الحضري ويحد منه بدرجة كبيرة(9). ويتزايد الاعتراف بجهود تلك المنظمات: ولقد كان مؤتمر الموئل الذي عقد في عام 2006، من نواح كثيرة، بمثابة احتفال بنجاحها.

إلا أن المجتمعات المحلية كثيراً ما كان يتعين عليها التغلب على عقبات تضعها في طريقها السلطات المحلية والوطنية، بينما كان يمكن أن يُحدث اتباع نهج أكثر دعماً فارقاً جوهرياً. ولمساعدة التحضر على التحرك في الاتجاه الصحيح، من اللازم أن يراجع واضعو السياسات افتراضاتهم التي تكمن وراء تحيزهم ضد التحضر(10). وينبغي أن يكونوا قادرين ليس فحسب على التحرك مع التيار بل أن يوجهوه أيضاً نحو تحسين الموئل الحضري والحد من الفقر. ويصور هذا الفصل هذه المسألة فيما يتعلق بقضية حاسمة الأهمية للحد من الفقر الحضري، وهي احتياجات الفقراء إلى المأوى.

محاولة إبقاء الجموع خارج المدن: استراتيجية فاشلة

لقد جربت الحكومات الوطنية استراتيجيتين لتقييد التوسع السريع في المستوطنات الحضرية للفقراء، هما: (أ) وضع مخططات طموحة للإبقاء على الناس في المناطق الريفية أو استعمار مناطق زراعية جديدة؛ و (ب) تنظيم استخدام الأراضي الحضرية، المدعومة إما بعمليات الطرد أو، وهو الأكثر شيوعاً، بالحرمان من الخدمات الأساسية من قبيل المياه والصرف الصحي(11).

والمبررات الضمنية لواضعي السياسات في قيامهم بذلك هي أن سكان العشوائيات الفقيرة كان ينبغي ألا ينتقلوا إلى المدينة أصلاً، وأن مساعدتهم تسهم في التحضر المفرط. وبناء على ذلك يحاول واضعو السياسات أن يجعلوا المدن أقل جاذبية في أعين المهاجرين المحتملين.

وبالنظر إلى أن معظم الفقراء في الدول ذات الدخل المنخفض مازالوا يعيشون في المناطق الريفية، يبدو من المعقول فطرياً إبقاء الهجرة من الريف إلى الحضر منخفضة إلى مستوى يتماشى مع توافر فرص العمل والخدمات في الحضر. وفي كثير من مدن العالم لم يكن الجدل الحامي الوطيس في أروقة السلطة يدور حول أفضل السبل لمساعدة فقراء الحضر بل حول كيفية منعهم من الوصول إلى المدن، أو الاستيطان فيها، أو البقاء فيها.

إلا أن الحجج التي تصور الهجرة المفرطة من الريف إلى الحضر كسبب للفقر الحضري تستند عادة إلى عدد من التصورات الخاطئة هي ما يلي:

  • المهاجرون من الريف إلى الحضر مسؤولون أساساً عن الفقر الحضري، عِلماً بأن المكون الرئيسي من مكونات النمو الحضري في معظم الدول ليس الهجرة بل الزيادة الطبيعية (أي زيادة عدد المواليد عن عدد الوفيات)، كما هو مذكور في الفصل 1. والمهاجرون ليسوا عموماً مركزين تركيزاً أكبر بين الفقراء .(12) وعلاوة على ذلك، كثيرون من المقيمين في المستوطنات الفقيرة ليسوا مهاجرين من الريف إلى الحضر بل هم فقراء نزحوا من أجزاء أخرى من المدينة.

  • التركيز على الفقر الحضري يمكن أن ينتقص من الاهتمام بالتنمية الريفية، عِلماً بأن معاملة الفقر "الريفي" والفقر "الحضري" على أنهما منفصلان ومتنافسان فيما بينهما على الموارد ليس خطأ مفاهيمياً فحسب بل يمثل رؤية للمشكلة تتسم بقصر النظر الملحوظ. ففي حقيقة الأمر، تحفز التنمية الريفية الناجحة وتدعم عموماً التنمية الحضرية، والعكس بالعكس(13) . وعلاوة على ذلك، قد ينبثق فعلاً عن التنمية الريفية الناجحة مزيد من الهجرة من الريف إلى الحضر. وعلى العكس من ذلك، يمثل النمو الحضري محفزاً قوياً للإنتاج الغذائي، خصوصاً من جانب صغار المزارعين. وتسهم إمكانية الوصول إلى الأسواق الحضرية المنتعشة في الحد من الفقر الريفي وتسهم أيضاً في تحقيق الأمن الغذائي الحضري.

  • النمو السكاني في المدن هو السبب في وجود العشوائيات الفقيرة. صحيح أن نمو المدن كثيراً ما يصاحبه توسع سريع في الأحياء غير المخططة التي لا تقدم إليها خدمات كافية وتوجد فيها تركيزات عالية من الفقراء؛ ولكن هذا يرجع بدرجة كبيرة إلى عدم الاهتمام باحتياجات الفقراء، أي أنه مسألة رؤية وحكم (انظر القسم التالي).

  • الفقراء يستنزفون الاقتصاد الحضري. على النقيض من ذلك، وجود فقراء الحضر أساسي من أجل اقتصاد المدن ومن أجل التنمية الوطنية. فمن المؤكد أن كثيرين منهم يعملون في القطاع غير الرسمي، ولكن القطاع غير الرسمي ليس مجرد مزيج فوضوي من أنشطة مُهمَّشة، مثلما يُنظر إليه عادة، بل إن قدراً كبيراً منه يتسم بالتنافس والحيوية الشديدة، وباندماجه اندماجاً جيداً في الاقتصاد الحضري بل وفي الاقتصاد العالمي. فالقطاع غير الرسمي يشكل ما يصل إلى ثلثي العمالة الحضرية في كثير من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء ويلعب دوراً حاسم الأهمية في استجابات الأسر المعيشية الحضرية للأزمات. وهو أيضاً مصدر رئيسي للعمالة والدخل بالنسبة لنساء الحضر الفقيرات.

  • المهاجرون سيكونون أفضل حالاً لو بقوا في المناطق الريفية. عندما ينتقل المهاجرون إلى المراكز الحضرية فإن خياراتهم تكون خيارات رشيدة. وحتى إذا كانت ظروف العمل والمعيشة في الحضر تنطوي على صعوبات جدية كثيرة، فإن تلك الصعوبات يُرتأى أنها أفضل من البدائل الريفية، وإلا فإن المهاجرين لن يواصلوا التوافد على المدن. والتدابير الرامية إلى كبح الهجرة يمكن بسهولة أن تجعل الفقر الريفي وكذلك الفقر الحضري أسوأ، لا أفضل.

  • السياسة المناهضة للهجرة يمكن أن تحد من النمو الحضري. لا يوجد قدر كبير من القرائن التي تدل على أن الأنظمة التخطيطية التقييدية أو سوء الأوضاع في المناطق الحضرية قد حدّا بدرجة كبيرة من الهجرة من الريف إلى الحضر. فقد أديا، بجعلهما الأوضاع أسوأ، إلى زيادة صعوبة خروج فقراء الحضر من وهدة الفقر وحالا دون بذل جهود إيجابية للاستعداد للنمو الحضري.

وإيجازاً، التنقل هو استراتيجية تتبعها الأسر المعيشية ويتبعها الأفراد لتحسين حياتهم والحد مما يواجهونه من مخاطر وضعف. وعلاوة على ذلك يضطر الناس في مناطق كثيرة إلى الرحيل من المناطق الريفية: فالنمو السكاني والتغير البيئي قد استنزفا قاعدة الموارد الطبيعية وقدرتها على دعم المقيمين المحليين. وعلاوة على ذلك، يُجبر أيضاً انعدام الأمن نتيجة للصراعات الأهلية كثيرين من سكان الريف على الفرار إلى المدن أو المناطق المحيطة بها(14) . ومن ثم فإن الانتقال إلى المدن ليس، بالنسبة لكثيرين، قراراً رشيداً فحسب، بل هو في بعض الأحيان السبيل الوحيد للبقاء على قيد الحياة.

وعلى الرغم من وجود صعوبات شديدة ومستمرة كثيرة، من الواضح أن التحضر يحسن الحياة، بوجه عام. ويسهم المهاجرون وسكان الحضر الفقراء أيضاً في النمو الاقتصادي الحضري والوطني. وينبغي أن تعترف السياسات بدور حراك السكان في التنمية وفي الحد من الفقر. والقضية الحقيقية ليست نمو المدن بسرعة بل هي عدم استعدادها لاستيعاب النمو الحضري.

ومن الممكن أيضاً أن يؤدي وجود ضوابط مباشرة على الهجرة من الريف إلى الحضر إلى زيادة الفقر الريفي بالحد من تحويلات الأموال والسلع إلى الأسر المعيشية الريفية من الأقارب المهاجرين. وفي معظم البلدان ذات الدخل المنخفض تشكل التحويلات المالية والإيرادات المكتسبة من أنشطة حضرية غير زراعية نسبة متزايدة من دخل الأسر المعيشية الريفية. وهذا التفاعل بين المناطق الريفية والمناطق الحضرية من المرجح أن يزيد بمرور الوقت وينبغي دعمه(15) . فالأسر المعيشية الفقيرة التي تتمكن من تنويع مصادر دخلها في أماكن مختلفة وقطاعات اقتصادية مختلفة تكون عموماً أقل عرضة للتأثر بالهزات المفاجئة وقد تكون قادرة على أن تنتشل نفسها من براثن الفقر.

أما محاولات التحكم في الهجرة من الريف إلى الحضر فهي تمثل تعدياً على الحقوق الفردية وتعيق التنمية بوجه عام. وهي محاولات من الصعب إنفاذها وتتسم عادة بعدم جدواها. وليس مما يدعو إلى الدهشة أن لها تاريخاً طويلاً من الفشل، مثلما يبّين الإطار 14.

14

عدم جدوى محاولة منع الهجرة من الريف إلى الحضر

إن تاريخ محاولات التحكم في الهجرة من الريف إلى الحضر هو تاريخ يتسم بالإحباط. فقد حاولت ذلك أغلبية البلدان ذات الاقتصادات المخططة مركزياً، خصوصاً بالحد من الهجرة إلى العاصمة، دون جدوى أو محققةً جدوى ضئيلة(1). وقد ورثت حكومات كثيرة فيما بعد العهد الاستعماري الإجراءات الوحشية الخاصة بالنظم الاستعمارية فيما يتعلق بمنع النمو الحضري. وكثيراً ما تجسد محاولات إعادة توجيه تدفقات الهجرة ووضع حد للتركيز الحضري عدم فهم التكنوقراطيين للأسباب التي تجعل المهاجرين ينتقلون. وتحاول منهجياً السياسات الصريحة للحكومات أن تعمل على إزالة التركيز الحضري. وعلى النقيض من ذلك، تعزز دوماً تقريباً سياساتها الضمنية وغير المقصودة، التي تكون متطابقة عموماً مع قوى السوق، ذلك التركيز(2).

ولقد أدى ذلك إلى ملاحظة أن: "… المجتمعات التي تسمح بحرية انتقال الناس داخل حدودها من المرجح أن تشهد انخفاضاً في الفقر في المناطق الريفية. أما تلك التي تحاول أن تتحكم في الهجرة، أو تحد من الانتقالات إلى البلدات والمدن أو تعكس مسار تلك الانتقالات، فمن المرجح أن تشهد تغيراً ضئيلاً أو تدهوراً في الأوضاع فيها. فعلى سبيل المثال، كانت تحركات السكان الداخلية محكومة بطريقة صارمة في كل من الصين وفييت نام إلى أن جرت عمليات الإصلاح فيهما بدءًا من عام 1978 وعام 1986، على التوالي. وقد انخفض الفقر في كلا هذين البلدين انخفاضاً حاداً خلال العقود التالية"(3).

وأخيراً، فإن اتخاذ موقف ترك الحبل على الغارب والاكتفاء بالتمني فيما يتعلق بالنمو الحضري كلاهما ضار. فافتراض عدم حدوث مزيد من النمو لأن الأمور تسوء هو افتراض أقل ما يوصف به أنه غير حصيف:

"… فالنمو والتوسع الحضريان موجودان في كل مكان في جميع الأوقات. فالمدن التي تشهد نمواً سكانياً واقتصادياً تشهد حتمياً توسعاً حضرياً أيضاً. وهذا بحد ذاته يمثل نتيجة هامة، لأن من الشائع إلى حد كبير سماع المخططين وصناع القرار الحضريين وهم يتحدثون عن مدنهم على اعتبار أنها تمثل استثناءات من القاعدة، ويجزمون بأن المدن الأخرى ستنمو وتتوسع أما مدنهم هم فلن يحدث هذا فيها، وذلك لسبب بسيط هو أنها متفجرة سكانياً فعلاً، ولأنهم يعتقدون أن حدوث مزيد من النمو فيها أمر يلقى اعتراضاً(16).

تلبية احتياجات الفقراء إلى المأوى

عندما يتقبل واضعو السياسات حتمية النمو الحضري فإنهم يصبحون قادرين على المساعدة على تلبية احتياجات الفقراء. ومن أهم المجالات في هذا الصدد المأوى. فكما بيَّن مؤتمر موئل الأمم المتحدة بوضوح على مر السنين، ترتبط الصعوبات الكثيرة التي يواجهها فقراء الحضر، ارتباطاً بدرجة أكبر أو أقل، بجودة الإسكان وموقعه وأمنه.

إذ يوجد ارتباط فيما بين الاكتظاظ السكاني، وقصور البنية التحتية والخدمات، وانعدام أمن الحيازة، والمخاطر المنبثقة عن الأخطار الطبيعية والأخطار التي هي من صنع الإنسان، والاستبعاد من ممارسة المواطنة، والبعد عن فرص العمل وكسب الدخل. فالمأوى يمثل لب الفقر الحضري: ومن الممكن تحقيق الكثير لتحسين حياة الناس عن طريق اتباع سياسات أفضل في هذا المجال. واتخاذ مبادرات في هذا الميدان يعود بالفائدة بالذات على النساء الفقيرات اللائي كثيراً ما يكن مثقلات بمسؤوليات ثلاثية تتمثل في تربية الأطفال، وإدارة شؤون الأسرة المعيشية، وكسب الدخل.

ووجود سقف وعنوان في حي يمكن السكنى فيه يمثل نقطة انطلاق حيوية لفقراء الحضر، يمكن أن يستفيدوا من خلالها مما يمكن للمدينة أن تقدمه لهم من حيث فرص العمل، والدخل، والبنية التحتية، والخدمات، والمرافق. فالمأوى اللائق يوفر للناس بيتاً؛ وأمناً لممتلكاتهم، وأماناً لأسرهم؛ ومكاناً لتعزيز علاقاتهم وشبكاتهم الاجتماعية؛ ومكاناً للتجارة المحلية وتوفير الخدمات؛ وسبيلاً للحصول على الخدمات الأساسية. وهو الخطوة الأولى لكي ينعموا بحياة أفضل. وبالنسبة للنساء، الملكية والمأوى هامان على وجه الخصوص فيما يتعلق بالفقر، وفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، والهجرة، والعنف.

وإذا كان المأوى غير اللائق يمثل السبب الجذري للفقر الحضري، فإن استمرار ممانعة واضعي السياسات في أن يتقبلوا النمو الحضري يترك الفقراء مضطرين إلى الدفاع عن أنفسهم في أسواق أرض وإسكان غير منظمة ولا ترحم. ويضطر الفقراء، لأنهم لا حول لهم ولا قوة، إلى العيش في مناطق غير آمنة أو لا يمكن السكنى فيها، حيث ليس من المرجح أن تتواجد فيها حتى الخدمات الدنيا من قبيل المياه والصرف الصحي.

وبواسطة ما يظهره البشر في مختلف أنحاء المعمورة من قدرة إبداعية وسعة حيلة لا حدود لهما، يعيش ملايين من البشر في البلدان النامية في "مساكن تعتمد على المساعدة الذاتية". فشرائح كبيرة من فقراء الحضر لا تستطيع أن تتاح لها إمكانية الحصول على الأرض والمساكن إلا عن طريق غزو أراض يسيطر عليها المضاربون أو عن طريق الاستيطان في محليات لا تقيِّمها أسواق الأراضي تقييماً مرتفعاً، من قبيل جوانب التلال المنحدرة، وضفاف الأنهار المعرضة للفيضانات، والنظم الإيكولوجية الهشة، ومناطق مستجمعات مياه الأمطار، أو في مواقع على مقربة من مخاطر صناعية.

وكثيراً ما تكون هذه المستقطنات غير قانونية ولكنها تمثل عموماً الخيار الوحيد المتاح للفقراء، سواء كانوا مهاجرين من الريف أو من أهالي المنطقة، بحثاً عن المأوى. وكثيراً ما تحول لا قانونية الحيازة وانعدام أمنها دون إدخال الناس تحسينات كبيرة على منازلهم أو دون التكاتف معاً لتحسين مستوى حيِّهم. ومن شأن أمن الحيازة أن يحفز الاقتصاد المحلي لأنه يشجع الناس على الاستثمار في تحسين بيوتهم.

ولا تساعد الحكومات عموماً المناطق التي تكون فيها حقوق ملكية الأراضي غير واضحة، ومن ثم نادراً ما يجري تزويد هذه المستوطنات غير الرسمية بالمياه أو الصرف الصحي أو سبل النقل أو الكهرباء أو الخدمات الاجتماعية الأساسية. وغالباً ما يكون نمط شغل هذه المساكن الذي ينجم عن ذلك عشوائياً وغير متسق.

وعندما يحاول سكان المناطق العشوائية تحسين أوضاعهم، أو عندما تحاول أجهزة الحكم المحلي في نهاية الأمر تزويدهم بالخدمات الدنيا، قد تصبح التكاليف الاقتصادية غير عملية(17) . فمجرد شق طريق أو توفير قنوات من أجل المياه أو الصرف الصحي يتطلبان إزالة المباني القائمة. وانعدام التخطيط، وعدم ملاءمة الموقع، وعدم وجود طرق للوصول، ومجرد تراكم أوضاع بائسة، يجعل من الأصعب تزويد الأحياء الفقيرة بالمياه والصرف الصحي والكهرباء وطرق الوصول وإدارة النفايات. وفي الوقت ذاته فإن مجرد توقع بذل هذه المحاولة يؤدي إلى ارتفاع أسعار الأراضي، ويشجع المضاربة عليها، ويزيد من انعدام الأمن.

وتحسين إمكانية الحصول على الأراضي والإسكان بالنسبة لجموع فقراء الحضر المتزايدة يستدعي اتخاذ موقف يكون استباقياً بدرجة أكبر. فثمة إدراك متزايد لحقوق الناس في الحصول على سكن؛ ولكن الموقف السلبي إلى حد كبير من جانب صناع القرار فيما يتعلق بالنمو الحضري مازال يحول دون معالجتهم احتياجات الفقراء إلى المأوى معالجة فعالة. وفي بلدان عديدة، تواجه النساء صعوبات إضافية في ممارسة حقوقهن المتعلقة بالمأوى وذلك لأن القوانين الوطنية تمنعهن من تملُّك عقارات تملكاً قانونياً. ً.

"ينبغي للحكومات أن تعزز قدراتها على الاستجابة للضغوط الناجمة عن سرعة التحضر … وينبغي إيلاء اهتمام خاص لإدارة الأراضي من أجل تأمين الاستخدام الاقتصادي للأراضي، وحماية النظم الإيكولوجية الهشة، وتيسير إمكانية حصول الفقراء على الأراضي في كل من المناطق الحضرية والمناطق الريفية .(18)

وثبة هائلة: تحقيق سيناريو جديد فيما يتعلق بالمأوى

كيف يتسنى للمؤسسات الوطنية والدولية أن تساعد على خلق مستقبل حضري يمكن أن يُعاش من أجل جموع فقراء الحضر، مثلما أوصى المؤتمر الدولي للسكان والتنمية؟ من الضروري هنا التمييز بين النُهُج التي ترمي إلى تلبية احتياجات فقراء الحضر الذين يعيشون حالياً في المدن والنُهُج التي ترمي إلى التخفيف من الضغوط الناجمة عن النمو المستقبلي الكبير.

والمناقشات الجارية تركز أساساً على الوضع الحالي للأحياء العشوائية الفقيرة الموجودة، وعلى تنظيمها الداخلي وعلى كفاح سكانها من أجل مقاومة الطرد وتحسين الخدمات الحضرية. ويتزايد الاعتراف بدور المنظمات المحلية في تحسين الأوضاع المعيشية الحضرية بالنسبة للفقراء. ولقد كانت منظمات فقراء الحضر مسؤولة أيضاً عن التمكين المحلي، وعن إحداث تغييرات في عمليات صنع القرار التي سيكون لها تأثير دائم على التخطيط والإدارة الحضريين(19) .

إلا أن الاحتياجات الحالية إلى المأوى لا تعدو، في مواجهة النمو المقبل، أن تكون الجزء الظاهر من المشكلة في بلدان كثيرة. فمن المتوقع أن تضيف أفريقيا وآسيا بمفردهما 1.7 بليون ساكن حضري جديد خلال الفترة من عام 2000 إلى عام 2030. وكثيرون من هؤلاء السكان الحضريين الجدد، سواء كانوا مهاجرين أو من أهالي المناطق الحضرية، فقراء (انظر الإطار 15).

15

ما هو عدد الفقراء بين سكان الحضر الجدد؟

تتفاوت نسبة سكان الحضر الذين تتزايد أعدادهم في البلدان النامية ويكونون فقراء أو فقراء جداً تفاوتاً كبيراً وليس من السهل قياسها. ومع ذلك حتى عمليات المحاكاة التقريبية تشير إلى أن هذه النسبة مرتفعة.

والمكونات الثلاثة للنمو الحضري هي الهجرة الداخلية، والزيادة الطبيعية في عدد السكان، وإعادة تصنيف المناطق الريفية على أنها مناطق حضرية. والزيادة الطبيعية في عدد السكان أعلى بوجه عام فيما بين الفقراء، سواء كانوا مهاجرين داخلياً أو من أهالي المناطق الحضرية. ومستويات فقر المهاجرين داخلياً تكون عموماً مستويات وسيطة بين مستويات فقر المناطق الحضرية والمناطق الريفية. ومن الممكن أيضاً افتراض أن الناس الذين يعيشون في المناطق الريفية التي يعاد تصنيفها على أنها مناطق حضرية تكون مستويات الفقر بينهم مستويات وسيطة ما بين المستويات الريفية والمستويات الحضرية.

وفي حالة البرازيل، قدِّر أن 69 في المائة من المهاجرين إلى المناطق الحضرية ومن سكان الريف الذين أعيد تصنيفهم على أنهم حضريون (خلال الفترة ما بين عام 1999 وعام 2004) يمكن تصنيفهم على أنهم "فقراء". وفي الفترة ذاتها، يمكن عزو 48 في المائة من الزيادة الطبيعية في عدد سكان الحضر إلى الفقراء(1). . وفي هذه الحالة، يمكن بأمان افتراض أن الفقراء من شأنهم أن يشكلوا، في تقدير متحفظ للغاية، أكثر من نصف جميع سكان الحضر الجدد. ومن المنطقي أن الفقراء من شأنهم أن يشكلوا في البلدان التي توجد فيها مستويات أعلى من الفقر نسباً أعلى حتى من ذلك بين سكان الحضر الجدد لديها.

ويستدعي التخطيط للتوسع السريع في الاحتياجات من حيث المأوى في البلدات والمدن مستقبلاً، مع القيام في الوقت ذاته بتلبية الطلبات السابقة المتراكمة، تغيراً حاسم الأهمية في النهج الذي تتبعه الحكومات البلدية والوطنية. فسيتعين عليها أن تحشد مواردها التقنية والسياسية من أجل تلبية احتياجات فقراء الحضر المتعلقة بالحصول على أراض ومساكن وخدمات، لا أن تحشد تلك الموارد ضد تلك الاحتياجات. وسيكون من اللازم لها أيضاً أن تستشير منظمات فقراء الحضر وتستفيد من خبرتهم ومعارفهم المحلية، فهذه المنظمات تشكل كثرة منها جانباً من النُهُج الناجحة حالياً.

ويتطلب التعامل مع سرعة تضاعف سكان الحضر في البلدان النامية رؤية ونُهُجاً أكثر فعالية. فالفقراء يحتاجون، لكي تتاح لهم فرصة لتحسين حياتهم، إلى إمكانية الحصول على أراض ميسورة التكلفة ومزودة بالخدمات لكي يبنوا عليها منازلهم ويحصلوا على خدمات أخرى. ومع توافر ذلك باعتباره حجر الزاوية، يمكنهم أن يبدأوا في بناء بقية حياتهم. ومن ثم، تتمثل مبادرة حاسمة الأهمية على المديين المتوسط والطويل في توفير إمكانية الحصول على مأوى عن طريق اتباع سياسات استباقية فيما يتعلق بملكية الأراضي، والنظم الخاصة بها، وتمويلها، وتقديم الخدمات.

وتتمثل إحدى الاستراتيجيات في التركيز على توفير إمكانية الحصول على أراض مزودة بالخدمات لملايين البشر الذين تتزايد أعدادهم. ويجب أن تشيع في هذه الرؤية الواقعية البحتة. فحكومات البلدان التي تتسم بسرعة التحضر فيها غير قادرة على توفير الإسكان والخدمات الحضرية المرغوبة لمعظم فقرائها الذين يعيشون حالياً في الحضر لديها. ولن تتمكن هذه الحكومات من تلبية احتياجات الأعداد المتزايدة بسرعة من سكان الحضر الإضافيين. ومن قبيل عدم الواقعية أكثر من ذلك حتى تصوُّر أن سكان الحضر الجدد أولئك سيكونون قادرين على التنافس بنجاح فيما يمثل بالتأكيد أسواقاً عقارية مزدهرة.

وفي ظل هذه الظروف، يمثل توفير أراض مزودة بالحد الأدنى من الخدمات حلاً للمشكلة. ويتمثل الهدف من ذلك في توفير قطعة من الأرض للفقراء يمكن الوصول إليها بواسطة سبل النقل ذات العجلات (بدءًا من الحافلات وانتهاء بالدراجات) ولديها، على الأقل، توصيلات ميسورة بشبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء والتخلص من النفايات.

وهذا المسكن الأول غالباً ما يكون كوخاً بسيطاً، مصنوعاً من أي نفايات متاحة. ولكن من المرجح أنه سيتحسن: فتاريخ المستوطنات غير الرسمية يعلِّمنا أن الفقراء عندما يشعرون بالأمان بشأن حيازتهم لمساكنهم، وعندما تتاح لهم إمكانية حصول معقولة على سبل للرزق وعلى الخدمات، فإنهم يحسنون مساكنهم بمرور الوقت.

فاستثمار الأسر في منازلها هو وسيلة تبني بها أثمن أصل من الأصول التي تملكها، وهو أصل يمكن أن تعتمد عليه في حالات الطوارئ. وبمساعدة من الجيران وبدعم من الحكومة ومن المنظمات غير الحكومية تستطيع الأسر أن تحسن الخدمات الأساسية التي تحصل عليها.

وتزويد الفقراء بأراض مزودة بخدمات دنيا ليس حلاً سهلاً: فبالنظر إلى نَهَم المصالح الاقتصادية المعنية، وعدم وضوح الملكية في كثير من المدن النامية، وقدرة أسواق الأراضي غير الرسمية قدرة خارقة على تحقيق ربح باستغلال الفقراء، دائماً ما يكون التعامل في مجال استخدام الأراضي مفعماً بصعوبات. فالمستفيدون المقصودون ليسوا وحدهم الذين توجد لديهم موارد محدودة للغاية، بل ينطبق ذلك أيضاً على أجهزة الحكم المحلي والحكومات الوطنية بوجه عام. وعلاوة على ذلك، لا ترغب الحكومات عموماً إلى حد كبير في اتخاذ القرارات السياسية الصعبة التي تتطلبها هذه المسألة.

ومازال توفير أراض مزودة بخدمات دنيا يطرح صعوبات تقنية وسياسية، مع أنه أقل طموحاً بكثير من النهج التقليدي المحتوم فشله، المتمثل في توفير إسكان مبني ومزود بخدمات كاملة. ويقتضي تحقيق ذلك إحداث تغيير جذري في النُهُج المتعلقة بالتخطيط للأراضي الحضرية، كما يقتضي ثورة في تفكير الساسة والمخططين.

تنظيم أسواق الأراضي الحضرية: هل هو مهمة مستحيلة؟

لا يوجد افتقار إلى الأراضي. ولكن المشكلة هي وجود أسواق للأراضي لا تعمل على النحو المطلوب، ووجود أنظمة موجهة توجيهاً سيئاً، وعدم وجود سياسات إدارية استباقية.(20)

إن الصعوبات التقنية الرئيسية التي ينطوي عليها توفير أراض من أجل فقراء الحضر تتعلق بما يلي: (أ) تحديد أراض كافية يمكن البناء عليها والحصول على تلك الأراضي؛ (ب) استنباط طرائق مستدامة لتمويل نقل تلك الأراضي إلى الفقراء؛ (ج) تنظيم الطريقة التي تعمل بها أسواق الأراضي.

ولقد كان النقص المزعوم في الأراضي عقبة رئيسية تحول دون اتباع سياسات إسكانية أكثر فعالية من أجل الفقراء. وتشكل الحاجة إلى حماية الأراضي البيئية والزراعية من التوسع الحضري الفوضوي شاغلاً حقيقياً. إلا أن معظم المدن مازالت لديها أراض يمكن البناء عليها في مواقع جيدة، ولكنها أراض تملكها أو تسيطر عليها مصالح خاصة أو وكالات حكومية لا يعنيها استخدام الأراضي استخداماً موجهاً اجتماعياً. ومن ثم فإن النقص الحقيقي ليس نقصاً في الأراضي بل هو نقص في الأراضي المزودة بخدمات والميسورة الأسعار.

وتلبية احتياجات الفقراء من حيث الأراضي أسهل في سياق وجود أسواق منظمة تنظيماً جيداً للأراضي والإسكان. فالأسواق الفعالة لا تتيح فحسب مزيداً من الأراضي للفقراء، بل تحبذ أيضاً النمو الاقتصادي.

وعدم وجود تنظيم جيد يؤدي فعلاً إلى زيادة الفقر : فبمقارنة كل متر، يدفع سكان المستوطنات غير الرسمية ثمناً للأراضي والخدمات أعلى من الثمن الذي يدفعه سكان المناطق السكنية الأغنى.(21) كما أن الأسواق غير المنظمة تجعل من الصعب على الهيئات الحكومية تحصيل الضرائب العقارية أو الحد من المضاربة على الأراضي وتكوين موارد على هذا الأساس من أجل التخطيط لاستخدام الأراضي تخطيطاً موجهاً اجتماعياً (انظر الإطار 16).

16

توفير أراض للفقراء في مواجهة النمو الحضري السريع(1)

إن المشكلة لا تتمثل في نقص الأراضي أو في عدد سكان الحضر الفقراء بقدر ما تتمثل في تقييد إمكانية حصولهم على أراض ومساكن مزودة بالخدمات وذلك بسبب تشوُّه أسواق الأراضي.

وتزويد المناطق المأهولة فعلاً بالخدمات تتجاوز تكلفته توفير أراض مزودة بالخدمات في مواقع غير مأهولة. إلا أن السلطات العامة، متذرعة بعدم كفاية الأموال، يبدو أنها تعتبر الاستثمارات الأقل في البرامج التي تنفذ لاحقاً أكثر جاذبية من اتباع سياسات استباقية مخططة جيداً. ومن الممكن تحقيق الكثير لتحسين الوضع، مثلاً بسن تشريع خاص لتوفير أراض مزودة بخدمات كافية من أجل الجماعات المنخفضة الدخل. وباستطاعة المدن أن تموِّل التنمية الحضرية بفرض ضرائب على الزيادات في قيمة الأراضي التي تنجم إما عن الاستثمار العام في البنية التحتية أو الخدمات الحضرية المحلية، أو عن إعادة تحديد استخدامات الأراضي بتوجيهها نحو الاستخدامات الأكثر ربحاً، من قبيل تحويلها من الاستخدامات الريفية إلى الاستخدامات الحضرية أو من الاستخدامات السكنية إلى الاستخدامات التجارية.

وفقراء الحضر يُعامَلون عادة وكأنهم سلبيون فيما يتعلق بإنتاج واستهلاك الأراضي، مع أن لديهم قدرة ما على دفع ثمن الأراضي، رغم انخفاض دخولهم وعدم استقرارها. بل إن الفقراء يدفعون بالفعل في حقيقة الأمر أسعاراً مرتفعة جداً للإسكان الذي يعثرون عليه عن طريق السوق غير الرسمية. وهذه القدرة على الدفع يمكن تعبئتها تعبئة أفضل عن طريق التنظيم الرسمي وتوفير قطع من الأراضي.

ومن ثمة فإن شحة الأراضي أو الموارد المالية ليست العقبة الوحيدة التي تحول دون تطبيق سياسات قابلة للاستدامة. فمن اللازم، بمعنى ما، حماية الفقراء من الممارسات الاستغلالية التي يتبعها المقاولون الذين يستفيدون من الخدمات التي تقدمها المجتمعات المحلية أو يقدمها القطاع العام. ويلزم توافر الإرادة السياسية، وكذلك القدرات الإدارية والتقنية، لتحديد الموارد المتاحة والحصول عليها واستثمارها على النحو السليم ـ بما في ذلك موارد الفقراء أنفسهم ـ في تحقيق تنمية حضرية أكثر إنصافاً.

 

ولقد كان تمويل الإسكان الموجه اجتماعياً صعباً دائماً، ولكن لا يوجد افتقار إلى مقترحات مبتكرة، بعد تجاوز عقبة التحيز المناهض للحضر. ففي ظل وجود أسواق منظمة للأراضي يمكن توجيه دعم أجهزة الحكم المحلي والمنظمات غير الحكومية ووكالات التمويل الدولية نحو اتباع نَهْج أكثر استباقاً.

وباستطاعة الوكالات الدولية والمتعددة الأطراف أن تُحدث فارقاً. والقواعد الجديدة لمنظومة الأمم المتحدة، التي أعلنها الأمين العام في آب/أغسطس 2006، ستُمكِّن الأمم المتحدة من التغلب على هذا القصور البنيوي وتوفير دعم أكثر فعالية فيما يتعلق بتمويل إسكان ميسور. وسيشمل هذا الدعم نظماً لتمويل الرهن تكون في صالح الفقراء، وهي نظم يجري اختبارها حالياً ميدانياً، كبديل لسياسات الإسكان الاجتماعي التقليدية(22) . وسيتعين إيلاء اهتمام خاص لما يوجد في قنوات الائتمان الرسمية من معوقات ضد المرأة تحول دون استفادتها من هذه السوق. ولقد ثبت أن إمكانية الحصول على التمويل المتناهي الصغر تدعم تمكين المرأة وتساعد على الحد من الفقر الحضري.

أنشطة الدعوة، الأصوات والعمل: الحاجة إلى قيادة

هذه المبادرات تستدعي وعياً جديداً ومستوى غير مسبوق من الدعم السياسي على الصعيدين المحلي والوطني. فمعظم الساسة يكونون، في أفضل الأوقات، غير راغبين في مجابهة نفوذ السوق العقارية الحضرية. كما أن التعقد الإضافي الذي تنطوي عليه تلبية احتياجات الفقراء إلى الأراضي، على النحو الموصوف أعلاه، أقل حتى تشجيعاً من ذلك. وتتمثل مبادرة حاسمة الأهمية، ستفشل بدونها معظم الجهود، في تنظيم الزيادات في قيمة الأراضي. وبعبارة أخرى، من الضروري البدء في تطبيق تدابير ضريبية تمنع المضاربين والمقاولين العقاريين من رفع سعر الأراضي والخدمات بدرجة غير معقولة بمجرد اقتراح تخصيص الأراضي بدافع اجتماعي.

وليس من المرجح أن يكون هذا نهجاً شعبياً بالنسبة لهياكل النفوذ الحضري الموجودة حالياً. فالممانعة السياسية يُضخمها وجود فترة زمنية فاصلة بين العمل المقترح وأي عائد سياسي ممكن: ويلزم على الفور إنفاق رأس مال سياسي واستثمار مالي، ولكن الميزة السياسية والفوائد الاقتصادية ستُجنى بعد وقت طويل في المستقبل(23).

وتساعد هذه التعقيدات على تفسير سبب عدم كون التخطيط لاستخدام الأراضي على المديين المتوسط والطويل لا يحتل تقليديا درجة عالية من الأولوية بين أولويات الحكومات أو المانحين. ومع ذلك لا يمكن فحسب تجاهل احتياجات الجموع المتزايدة. وعلى وجه الخصوص، ينبغي النظر صراحة في العقبات القانونية والاجتماعية والثقافية التي تواجهها المرأة في الحصول على الأراضي. ولا يلزم فحسب توافر الإرادة السياسية وحلول تقنية صالحة، بل يلزم أيضاً وجود دعم منسق على صعيد السياسات من جانب المانحين وغيرهم من الجهات الفاعلة.

وسيبدأ توليد الإرادة السياسية بالاعتراف بأن الفقراء كثيراً ما يمثلون الأغلبية في النمو السكاني الحضري. كما أنه يتطلب قبول القادة وواضعي السياسات لحتمية النمو الحضري، ومعاملتهم للفقراء كمواطنين حضريين حقيقيين لهم حق واضح في الإقامة في المدينة وفي الحصول على سكن لائق. أما تصور أن الفقراء ليسوا مواطنين حضريين حقيقيين (24) فهو يقوض نمط المفاوضات الجماعية بشأن استخدام الأراضي والمعايير والخدمات العامة والبيئة، الذي يمكن أن يعالج بفعالية أهم التحديات الحضرية. كما أنه يقوض أي حافز قد يكون موجوداً لدى الساسة لمعالجة هذه الأمور.

وإيجاد وعي بين واضعي السياسات والمخططين، في ضوء النفور التقليدي من التحضر ومن النمو الحضري، سيتطلب أنشطة دعوة متينة ومستندة إلى أدلة. ومن الممكن أن تساعد النُهُج المتعددة التخصصات وأن يساعد الدعم الدولي الواسع النطاق على تحويل مسار التيار وذلك بالترويج للقرائن الواضحة والوقائعية والمفحمة التي تدل على التغييرات الجارية والاحتياجات التي تنشأ عنها.

وباستطاعة الأخصائيين السكانيين، على وجه الخصوص، المساعدة على استنباط دروس أساسية والترويج لها عن طريق البيانات والتحليلات والنماذج الملموسة، بما يشمل: (أ) حتمية التحضر والنمو الحضري ومزاياهما الحقيقية؛ (ب) عدم جدوى التحيزات والسياسات المناهضة للحضر؛ (ج) تزايد نسبة الفقر الوطني، مفصلة حسب كل جنس من الجنسين، في المناطق الحضرية؛ (د) فعالية اتباع نُهُج استباقية لمعالجة احتياجات الرجال الفقراء والنساء الفقيرات في المدن؛ (هـ) أهمية إشراك الفقراء في القرارات التي تمس موئلهم.

إضافة جرعة من الواقعية

وأخيراً، لابد أن تكون مبادرات من قبيل تخصيص قطع من الأراضي المزودة بخدمات دنيا للفقراء مصحوبة بدرجة كبيرة من النزعة العملية. فالمقترحات التي تقف وراءها أهداف نبيلة لم تضع نهاية لضروب الوحشية التي تتسم بها السوق أحياناً أو لتقلبات النظام الديمقراطي. وتوزيع أراض مزودة بخدمات دنيا يمكن أن يُستخدم، واستُخدم مراراً، تحقيقاً لأهداف أقل نبلاً من تلبية احتياجات الفقراء.

ومكافحة الممارسات الاستغلالية الخاصة بالمقاولين العقاريين ومقدمي الخدمات الذين يلجأون إلى مخططات لإعادة تقسيم الأراضي بدوافع اجتماعية من أجل زيادة أرباحهم تمثل تحدياً حقيقياً للغاية. فالإعانات يمكن ببساطة أن تؤدي إلى زيادة سعر الأراضي. ومن المعترف به أن السجل الدولي للأعمال المصرفية الخاصة بالأراضي سجل هزيل. فكثيراً ما تتعثر مشاريع رائدة ناجحة عندما يبدأ تنفيذها على نطاق كبير.

والأقل أهمية من ذلك أن الناس الذين ليسوا فقراء سيجدون سبيلاً في أي مخطط للتوزيع ليحققوا ربحاً. وسينتقل بعض المستفيدين بمجرد أن تكتسب عقاراتهم قيمة من حيث سعر الصرف أو قيمة نقدية، وإن كان ذلك ليس سلبياً بالضرورة، لأنه يصبح شكلاً من أشكال الحراك الاجتماعي. وتوزيع الأراضي المملوكة ملكية عامة أو المخصصة قد يصبح ضحية لمخططات اقتصادية أو سياسية مجردة من المبادئ الأخلاقية. بل إن هذه المخططات يمكن أن تؤدي حتى إلى زيادة البوْن الاجتماعي والجغرافي بين من يملكون ومن لا يملكون(25).

واحتمال استغلال النُهُج ذات الدوافع الاجتماعية لتحقيق مكسب اقتصادي أو سياسي ينبغي ألا يعيق اتباع تلك النُهُج فيما يتعلق بالأراضي المزودة بالخدمات. وسيتعين قيام قوى اجتماعية وسياسية أخرى، مدعومة بتوافر معلومات أفضل واتصالات محسنة، بدور من أجل استنكار المناورات المخادعة والقاسية التي تقف في طريق حدوث تحسن في حياة الفقراء(26).

الاستعداد للمستقبل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *