الحلقة الثانية: المدينة الإسلامية، رؤية من الداخل

الحلقة الثانية

المدينة الإسلامية،  رؤية من الداخل

د. مصطفى بن حموش

 

أستاذ مشارك، عمارة إسلامية

 

بجامعة البحرين

 mbenhamouche@eng.uob.bh

بواكير البحوث الإسلامية الذاتية

 

الباحث في أدب "المدينة الإسلامية" المعاصر يكاد يخرج بنتيجة حتمية تؤكد تفوّق الدراسات الاستشراقية المطلق في هذا المجال  باستثناء كتب التراث الأولى المعروفة بكتب الخطط التي أعيد نشرها. فلا يمكن بحال القيام بدراسة عن المدن القديمة إلا بالمرور على تلك الكتابات برغم ما تحمله من أحكام مجحفة على المدينة الإسلامية. و لذلك فإن بروز بعض الدراسات عن المدينة الإسلامية قام بها باحثون عرب أو مسلمون يجب أن تعتبر بواكير المدرسة الذاتية أو الداخلية للمدينة الإسلامية.  و من هذا القبيل فإن دراسات كل من الأستاذ بسيم حكيم "المدينة العربية الإسلامية" المنشورة سنة 1986  و التي تمت خلال أواخر السبعينات، و رسالة الأستاذ صالح الهذلول "المدينة العربية" التي نوقشت سنة 1981 و نشرت بعدها بسنوات  في كتاب، و دراسة الأستاذ جميل أكبر "عمارة الأرض في الإسلام" التي نوقشت سنة 1984 تعتبر بحق بواكير الدراسات الذاتية عن "المدينة الإسلامية". و قد تبعتها دراسات أخرى مثل تلك التي للسيد عبد الستار عثمان و خالد عزب و مصطفى بن حموش حول البعد الشرعي في المدينة الإسلامية. و لعل دراسات الأكاديميين الأتراك مثل البروفسور خليل إنالسيك الذي يؤكد إسلامية مدينة إسطنبول (1990) نموذج لما كانت عليه المدينة العثمانية من خضوع للأحكام الشرعية في التنظيم و البناء و التخطيط. كما كان للمهندس المرحوم عبد الباقي إبراهيم جهودا نظرية معتبرة لتوجيه الاهتمامات نحو هذا الجانب و القيام ببعض التجارب الميدانية التطبيقية لتلك النظريات التي تبقى مع ذلك محل نظر.كما كانت لدراسات الأوقاف و وثائق المحاكم الشرعية أثرها الكبير في دفع هذا الاتجاه حيث تبين الترابط الكبير بين مؤسسات الأوقاف من جهة و تشكل المدينة الإسلامية. و كذلك الارتباط الوثيق بين كل من مؤسستي الحسبة والقضاء بتنظيم المدينة حيث تزخر مسائل القضاء بآراء الفقهاء في المشكلات العمرانية مثل الشوارع و الأسوار و تقسيم العقارات و إحياء الأراضي الموات و تقسيم المياه و غيرها من المسائل.   

المدينة الإسلامية: بين الاشتراك والالتباس

هناك اتفاق على التباس المصطلحات المرتبطة بالمدينة سالت من أجلها الكثير من الأقلام بهدف ضبطها. فهناك "المدينة الإسلامية" و "المدينة المسلمة" و "المدينة العربية" و "المدينة العربية الإسلامية" و ذلك بالإضافة إلى التسميات الجغرافية و التاريخية مثل "المدينة العثمانية" و"المدينة الفاطمية" و "المدينة الأندلسية" و "المدينة الشرق أوسطية"، و هو شيء لا ينكره أحد. و قد زاد الطينة بلة أن معظم هذه المصطلحات كان استجابة لترجمة رديفاتها  اللاتينية التي وضعها باحثون غربيون. و قد نكتفي بذكر مقالين مشهورين في مجال تطور و نقد هذه المصطلحات تفيدنا على الأقل من ناحية التأريخ لها، أحدهما للدكتور جمل أكبر (1994) "هل هناك مدينة إسلامية؟"، و الآخر للمستشرق الفرنسي أندري رايمون (1994) بعنوان "المدينة الإسلامية، المدينة العربية: أو أوهام المستشرقين و رؤى معاصرة".  من المؤكد أن السيد وليد لم يطلع على هذه البحوث حيث كان سيوفر على نفسه مشقة المناقشة و يستفيد ممن سبقوه. و سنحاول أن نرتب هذه المصطلحات حتى تتضح الرؤية و التفرقة بينها. فالمدينة الإسلامية ليست بالضرورة ذلك المجسم العمراني الذي يتميز بالشوارع الضيقة و المباني المتداخلة و المتضامة و البيوت المفتوحة على الداخل. كما أنها ليست هي النموذج التخطيطي الذي يمكن أن نستخرجه من القرءان أو الحديث، فالكل يعلم أنه ليس هناك نموذج مدينة إجباري تفرضه أحكام الإسلام و يلتزم به المسلمون شرعا. إنما المدينة الإسلامية يقصد به ذلك النموذج المثالي أو التجريدي الذي يكون فيه الإسلام عاملا فاعلا و رئيسيا إلى جوانب العوامل الأخرى، بحيث تستجيب فيه المدينة لمتطلباته و لسكانها الذين يلتزمون بأحكام الدين بديهة. أو هي على الأقل تلك المدينة التي لا تتصادم و المعتقدات و العبادات و السلوك التي يتطلبها الإسلام من المنتسبين إليه. إن هذا  المصطلح التجريدي أشبه ما يكون بدفتر الشروط الذي يستخرج من استقراء النصوص المباشرة (القرءان و السنة) و آليات التشريع الأخرى (القياس، الإجماع، الأعراف، الاجتهاد) و كذلك العقائد و المنظومة الأخلاقية –كل هذه مجتمعة- و التي تؤثر لا محالة في التشكل العمراني و طبيعة المدينة. إن الباحث في "المدينة الإسلامية" لن يهتدي  إلى شكل هندسي أو مجسم لما يجب عليه أن تكون المدينة الإسلامية، إلا إن كان ذلك تصورا خاصا غير ملزم. فكما أنه لا يوجد إنسان إسلامي ينضبط جميع سلوكه و حياته بأحكام الإسلام، فكذلك المدينة الإسلامية.  و إنما النتيجة هي تصور عقلي مجرد و مثالي و مرجعي لما يجب عليه أن تستجيب له أو تستوحي منه المدينة من متطلبات و اعتبارات و أحكام شرعية و رؤى. و بمثل هذا التصور كذلك يمكننا أن نتأكد أن مدينة ما ليست إسلامية لكونها تتصادم مع تلك المتطلبات و الاعتبارات و الأحكام. كثيرا ما يستعمل كذلك مصطلح "المدينة المسلمة" أو "مدينة المسلمين" خاصة في الأدبيات الاستشراقية. و أعتقد أنه برغم ما في هذه التسمية  من ثقل لغوي أو ركاكة فإنها من حيث الواقع سليمة. فمدينة المسلمين أو عمارة المسلمين تعني  ما قام  به المسلمون من تطبيق لتلك المبادئ المستمدة من الدين عموما، على أرض الواقع استجابة للشروط المكانية و الزمانية التي أقاموا فيها. فعمارة أو مدينة المسلمين هي الوجه العملي للمدينة الإسلامية في زمان و مكان معيّنين. و هي في الغالب تعكس مدى تشبع المسلمين بمبادئ الإسلام و تجسيدها الفطري في أرض الواقع. و مع ذلك فإن ذلك التطبيق قد يحمل مظاهر لا تعبر بالضرورة أو بإطلاق عن الإسلام. فهناك الكثير من المآثر التي تعتبر جزءا من تراث الحضارة الإسلامية مثل مبنى تاج محل و ساحة الأسود بقصر الحمراء و المنمنات الفارسية و قصور الأمراء والسلاطين التي نمت في ظل الاستئثار المطلق بالحكم و التي أفرزتها الحضارة الإسلامية و لكنها تتصادم مع بعض النصوص الشرعية، أو على الأقل لا تعبر بالضرورة عن روح الإسلام. و يسمح هذا المصطلح بفهم ذلك التنوع الكبير في الطرز المعمارية و أنماط المدن باعتبار تأثير المعطيات المناخية و الجغرافية و التراثية التي تختلف من منطقة إلى أخرى. فالمدن التي شيّدها المسلمون تختلف من حيث شكلها و عمارتها و أنماطها كونها طبعات مختلفة تترجم ذلك العنصر المشترك الأساسي و هو الإسلام. إن ذلك ما يجعلنا نفهم مدى التنوع المعماري والعمراني الذي ينزوي تحت مظلة المصطلح المجازي "المدينة الإسلامية". ففي مقابل وحدة المصدر التجريدي "المدينة الإسلامية" هناك عدة استجابات متنوعة و بدائل للمدن المسلمة التي تعكس كيفية تطبيق تلك المبادئ المشتركة لدى كل مجتمع اعتنق ذلك الدين و مارسه ميدانيا. و من هنا يمكن اعتبار مدن الخلافة الأولى و المدينة الأموية و  المدينة العباسية و المدينة الفاطمية والمدينة العثمانية و المدينة الأندلسية و المدينة المغولية طبعات متنوعة زمانيا و مكانيا لما يسمى "المدينة الإسلامية".    و لعل أقرب مثال لغير المتخصص للفرق بين الإسلامي والمسلم هو اللباس أو الزي. فنقول مثلا الزي الإسلامي في مقابل الزي غير الإسلامي. فالزي الإسلامي هو تلك الشروط الأخلاقية و السلوكية التي يضعها الإسلام و التي تتطلب استجابة المسلم أو المسلمة لها طوعا و كرها. فمن ذلك مثلا أن لباس المرأة في الأماكن العامة لا يجب أن يبيّن ما يحرم أن يرى من جسمها، فلا يكون شفافا أو ضيقا أو يجلب الأنظار. أما الاستجابة لتلك الشروط فتكون إخراجا إلى حيز الوجود لذلك النموذج المجرد وفق المعطيات الثقافية والجغرافية من عادات و تقاليد و مناخ و نشاط اقتصادي بحسب كل للمنطقة التي يوجد فيها المجتمع أو الفرد المسلم. كما يستعمل مصطلح  "المدينة العربية" للتعبير عن "المدينة الإسلامية" أو "المدينة المسلمة"، و هو كذلك من قبيل التجاوز اللفظي للغة العربية كونها حاويا للدين الإسلامي. فقد كانت العربية و لا تزال اللغة الرئيسية للمسلمين أو المتداولة بينهم بجانب اللغات و اللهجات الأخرى. إن العربية بقول آخر ليست إلا حاويا للحضارة و الفكر الإسلامي الذي اصطبغ بها و جعلها اللغة الأممية للمجتمعات المسلمة كما يحدث حاليا مع الإنجليزية. أما من حيث العنصر، فإن عرب الجزيرة تاريخا لم تكن لهم عمارة مشهورة تذكر قبل الإسلام -اللهم إلا ما كان في اليمن أو مدائن صالح-. و قد اعتبر بعض المفكرين اختيار العرب لحمل الرسالة كونهم بقوا على الفطرة لم تكن لهم حضارة و لم يتأثروا بالحضارات السابقة و المجاورة، و هو ما ينسحب على حالة عمارتهم التي كانت بسيطة لم تدخل مرحلة البذخ التي شهدتها فارس والروم. و يبين ذلك تجربة العرب الفاتحين الذين لم يأخذوا معهم مجسما واضحا لتجسيده في البلدان المفتوحة، بل إن تجاربهم العمرانية الأولى تأثرت أيما تأثر بحاجاتهم الفطرية الدينية ثم بنماذج العمران السابق للإسلام كما حدث في دمشق و الكوفة و البصرة و الفسطاط.  أما التحفظ الذي يستدعيه هذا المصطلح فهو استفزازه للأعراق الأخرى التي بنت الحضارة الإسلامية و إيحاؤه بإقصائها أو تهميشها و غمط مساهمتها الجبارة، و قد يكون هو العامل الذي أدى إلى ظهور الشعوبية القديمة و المعاصرة. فمدن غير عربية مثل إصفهان و حيرات و بخاري و سمرقند بل و مدن المغرب الأقصى مثل مكناس و غرداية و تمنطيط بالمناطق البربرية لا تجد مكانتها تحت هذا المصطلح "العنصري" كونها غير عربية بالمفهوم العرقي. و لذلك فإن تسمية "المدينة العربية" يمكن قبوله كمفهوم فئوي أو إقليمي جغرافي أو ثقافي لغوي، في حين يفقد معناه العلمي إذا استعمل كبديل مطلق للمدينة الإسلامية.   

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *