الحلقة الخامسة و الأخيرة: المدنية الإسلامية؛ الواقع والآفاق

المدينة الإسلامية: ردود على السيد وليد

 

الحلقة الخامسة و الأخيرة: المدنية الإسلامية؛ الواقع والآفاق

 

د. مصطفى بن حموش

 

أستاذ مشارك، عمارة إسلامية

 

بجامعة البحرين

 

mbenhamouche@eng.uob.bh

 

واقع المدن القديمة

 

لا أحد يجهل الوضع المزري الذي توجد فيه  المدن القديمة في بلداننا العربية حاليا. فالتي كتب لها الاستمرار تعيش في حالة بائسة تدعو إلى الرثاء من قبل محبّيها و الهجاء من قبل أعدائها. لقد شهدت الحياة المدنية بفعل الاستعمار من جهة و العصرنة المتسارعة من جهة أخرى تحولات عميقة تجسدت في  تغير وسائل النقل و نمط العمل و أسلوب المعيشة و النظم الاجتماعية و الإدارية و السياسية و طرق البناء لم تكن للمدن القديمة استيعابها مما أحالها إلى ما يشبه وضع الموت الإكلينيكي و انتهاء الصلاحية. و في الوقت الذي حظيت  فيه بعض المدن أو أجزاء منها ببرامج متواضعة للمحافظة و الترميم بفعل الدوافع العاطفية و الوعي العالمي و المحلي المتزايد للمحافظة على التراث، فإن الباقي تحول إلى ما يشبه المدن القصديرية أو مجمع الأكواخ داخل المدن الكبرى.

 

و يترادف عامل موقعها المركزي داخل الحواضر الكبرى كما هو حال القاهرة و الجزائر و تونس و دمشق مع حالة مبانيها المترهلة و الآيلة أحيانا للسقوط ورداءة الخدمات، ليجعل منها مكانا مناسبا  للإيجار المنخفض  الذي يكون عادة في متناول المهاجرين القادمين من الداخل و ذوي الدخل المحدود و العزاب الذين يرغبون عادة الإقامة قريبا من مكان عملهم وسط المدن. و يرتبط تواجد الطبقات العمالية غير المتجانسة و الفقيرة في المدن القديمة بالهجرة المستمرة السكان الأصليين نحو المناطق الجديدة الراقية مما  يزيد من صعوبة إدارة تلك المناطق التاريخية و بالتالي رداءة البيئة الحضرية. فأمام غياب اهتمام السكان الوافدين من جهة و غياب المطالبة الجادة منهم، أصبح يخيّم على تلك المناطق جو من عدم الاكتراث و الموت البطيء. بل إنه لا يستبعد من بعض السلطات أن تتعمد ذلك الترهل بغية التخلص من تلك المناطق التراثية توقا لاستبدالها بمناطق حديثة و بعمارات زجاجية تعكس الوله بالتطور و تمحي الارتباط بالماضي.

 

و لعل إحدى خلفيات هذه الحالة المتأزمة هو الوضع القانوني الاستثنائي لمباني و عقارات تلك المناطق التاريخية الواقعة داخل محيط المدن القديمة، حيث تعود ملكيتها عادة إلى سلسلة أجيال من الورثة الذين ينحدرون من العائلات المقيمة الأولى. فبسبب غياب الاتفاق بين الشركاء و الورثة على كيفية إدارة العقار كثيرا ما تتعطل هذه المباني أو تبقى على حالها لمدة طويلة دون ترميم أو تحسين. و يكون أبسط حل لها هو تأجيرها للسكان ذوي الدخل  المحدود بثمن زهيد كما هي دون بذل جهود لصيانتها أو ترميمها بسبب قلة ذلك المردود. أما من جهة المستأجرين فإن تغطية تكاليف الإيجار و إيواء ذوي القربى أو أمواج المهاجرين الجدد تكون عادة دافعا للاكتظاظ و الاستعمال المكثف لتلك المباني القديمة مما يسارع أكثر في ترهلها.

 

على المستوى العمراني تختلط هذه الأوضاع عادة بصعوبة حركة السير الميكانيكية حيث تكون الأزقة الضيقة غير مؤهلة لاستيعاب العدد الكبير من السيارات و وسائل النقل العام بل و حتى خدمات جمع النفايات و الكهرباء و الهاتف و التدخل السريع. يضاف إلى ذلك عادة تواجد الحشود الكبيرة التي تقدم إلى المدينة القديمة للتسوق بحثا عن الرخص مما يزيد في الاختناق و صعوبة الحركة.  

 

و في إطار البحث عن حلول لتلك المشكلات المتعددة، يجد زائر المدينة القديمة مواد بناء و عناصر معمارية دخيلة على الواجهات مثل صفائح الألومنيوم و الحديد و أعمدة الكهرباء الملتصقة بالجدران و خيوط الهاتف المتدلية و العابرة لسماء الشوارع و قطع القماش المهترئة التي تغطي بعض مناطق السوق لتوفير الظل، و غير ذلك من المناظر البائسة التي تفسد ملامح أصالة تلك المدن.

 

من الطبيعي ألا تستوعب المدينة القديمة هذه الأوضاع و ألا تستجيب للعديد من متطلبات المدنية المعاصرة و ألا تكون بالتالي مكانا مرغوبا فيه للإقامة و الاستقرار حتى لدى المتعاطفين مع تلك المدن كما يحلو للمناوئين لها الغمز به. لكنه من المؤكد أن المعاناة التي تعيشها المدن القديمة، ليس مرده إلى سوء تخطيط أصلي و هندسة غير سليمة بل و لا بالضرورة إلى تجاوز الحياة المدنية لمخططها و مورفولوجيتها بدليل أن العديد من المدن القديمة في دول أوربا مثل إيطاليا و إسبانيا لا تزال عامرةأن HK أ،     ، بل إن أغلبه يعود إلى الفراغ الذي خلفته الشروط المعيشية الأولى التي  رافقتها طيلة حياتها الطبيعية ثم التغريب و العصرنة المستعجلة التي انتهجتها بلداننا.

 

من البديهي إذن ألا يلزم ما تعاني منه المدن القديمة حاليا مفهوم المدنية  الإسلامية في شيء، حيث أنها كانت مجرد استجابة معينة لشروط الحياة الحضرية في زمن و مكان محددين، هذا إذا اعتبرنا الإسلام دينا خالدا صالحا يتجاوز حدود الزمان و المكان، و ليس تاريخا و تراثا.

 

و مع ذلك فإن التحدي الذي يبقى مطروحا أمام المجتمع المعاصر و بالأخص المخطّطون و المعماريون بالنظر إلى المدن القديمة كدرس في العمران البشري هو ما مدى سلامة نمط العيش الذي اخترناه لحياتنا في ظل التكنولوجيا الحديثة وليدة الثورة الصناعية، و الفردانية الصارخة و الطبقية الحادة و الاستهلاك الأقصى للطاقات و عيش الرفاهية المطلقة كل حسب طاقاته و هيمنة رأس المال و دواليب الدولة و القوانين الوضعية في إدارة المجتمعات؟ إن الكثير من المسلّمات العصرية  التي اعتبرناها مطلقة أخذت تتراجع بسبب ما جنته على الإنسانية حاليا و ما قد ينجر عنها في المستقبل. و من هنا نفهم أن التفات بعض الباحثين و المخططين و المعماريين المعاصرين نحو المدينة القديمة كشاهد على عصر مضى لكيفية تجسيد المدنية الإسلامية، ثم كمصدر للاستيحاء لمراجعة المدنية الحديثة و ليس بدافع التعاطف مع الماضي الجميل أو التقوقع في البحوث النظرية.  إنه نابع من عقل واع بالتجربة البشرية العميقة من جهة والأزمة الحضارية الحالية من جهة أخرى، و محاولة لاستنباط الحلول من الرصيد البشري الموغل في القدم  الذي ترتبط  فيه الظواهر العمرانية بالشروط و الظروف في نظام سببي. إن قراءة ظاهرة المدنية في صورة  تداولية على محور الزمن اللولبي و من ثم الاستفادة من التكرار أو التشابه في الأحداث التاريخية تطرح نفسها في مقابل القراءة الحالية لمستقبل الإنسان و المدنية  التي تعتقد أن تاريخ الإنسان سلسلة من الأحداث غير المسبوقة تتطلب دوما القفز المستمر نحو المجهول اعتمادا على قدرات العقل الإنساني في الابتكار. و سنرد بعد قليل بعض آراء استنباط العمران البديل من المدن القديمة.   

 

المدينة الخليجية المعاصرة: هل هي مدينة إسلامية؟

 

استحوذت دراسة المدن الخليجية، مثل الرياض و دبي و الكويت و المدينة المنورة و مكة المكرمة و جدة و المنامة  على جهود أكاديمية عديدة سواء كمواضيع لرسائل جامعية لطلبة عرب و أجانب أو مقالات أكاديمية في أوربا و أمريكا أو من قبل الباحثين الغربيين من باب فهم الظاهرة العمرانية الحديثة في منطقة  الجزيرة و الخليج. و قد غفل عنها السيد وليد و لم يبذل جهدا للإحاطة بها أو على الأقل المرور عليها مدعيا غياب الدراسات الحديثة عن المدن الخليجية. من المؤكد أن مثل هذه الدراسات لم تبلغ حد النصاب الذي يسمح لنا بفهم الظاهرة العمرانية الخليجية في سياقها التاريخي العام، و هو ما يوفر مجالا خصبا للبحث المستقبلي و يتطلب جهودا من السيد وليد و جيله من الباحثين الجدد. لكن اللوم بالتأكيد لا يسقط على الذين بذلوا جهودا لتحليل المدينة القديمة، و اتهامهم بالتقوقع على الماضي. فوجود الدراسات التي تهتم بالماضي بالإضافة إلى استجابتها لشروط البحث ستساعد في وضع اليد على ملامح الاستمرار و الانقطاع الثقافي في مدننا.

 

و ما يهمنا هنا حصريا هو فك الارتباط الخاطئ بين مفهومي المدينة الإسلامية و المدينة الخليجية الحديثة. فكثيرا ما يقحم موضوع المدينة الخليجية المعاصرة أو مدن الشرق الأوسط في سياق الدراسات العمرانية حول المدن الإسلامية. بل إن البعض يعتبر هذه المدن  ثمرة تطور تاريخي لها أو هي نتيجة تواجه الإسلام بالتقدم و الحداثة. و قد يزداد الباحث ضلالا ثقل البعد المكاني في تلك المدن و استمرار أسمائها القديمة مثل الرياض و المنامة و الكويت التي تقف فعلا على أنقاض المدن القديمة. و سنبين هنا أن ظهور هذه المدن في شكلها الحالي لا يعبر بالضرورة عن المدينة الإسلامية المعاصرة. و السبب بكل بساطة أن الإسلام كعنصر فاعل خاصة في أبعاده العمرانية التي ذكرناها سابقا لم يكن العنصر الرئيسي في تشكلها حيث تقهقر أمام عناصر أخرى متشابكة أهمها الاقتصاد الريعي و الصناعة البترولية و هيمنة دواليب الدولة والإدارة على العمران و العصرنة المتسارعة المتفاعلة مع البداوة  و القبلية و البيئة الصحراوية.

 

و لعل أهم المنزلقات المنهجية في هذا المجال هو إلباس المظاهر التقليدية للمجتمعات الخليجية التي ترسبت من عوامل البيئة و  القبلية و البداوة  بلباس الإسلام. فهي تصوّر التفاعل بين المجتمعات الخليجية و المدنية العصرية كصورة مجسدة للتآلف القسري أو التضارب بين الإسلام و الحداثة، أو تعتبر ذلك وجها من أوجه التجديد الإسلامي.  

 

لقد عاشت المجتمعات الخليجية –باستثناء مكة و المدينة- طيلة قرون الحضارة الإسلامية في وضع هامشي لمراكز العمران الكبرى- تجمع قبائلها بين ثنائيات الرعي و الصيد البحري، و الغزو و السلم، و التجارة البينية و الزراعة البدائية و رعي الإبل. و منذ القرن الخامس عشر ميلادي الذي بدأ فيه أفول الحضارة الإسلامية مع ظهور القوة البحرية الأوربية كانت القيم البدوية مثل منع تعلم المرأة و القتل من أجل الشرف  و إقامة التحالفات القبلية بالمصاهرة  و استمرار الرق و الغزو و التعامل بالربا خلال مواسم الغوص تستقر و تحلّ محلّ الكثير من القيم الإسلامية التي انغرست طيلة قرون الفتح الأولى. و قد اندثرت سلطة الإسلام في المجتمعات حيث لم يبق منها إلا بعض الشعائر التعبدية الأساسية مثل الصلاة و الحج و مكارم الأخلاق مثل إقراء الضيف و الخصوصية و غيرهما.

 

كما أن ما تعانيه المدينة الخليجية من معاصرة قسرية لا يلزم المدنية الإسلامية في شيء. فالمدينة الخليجية الحالية ذات تاريخ قصير تولدت في غالبها من الطفرة البترولية و المرور الاضطراري من البداوة إلى الحضارة في وقت قياسي غير مسبوق.  فتواجد الشركات البترولية البريطانية بحكم الاستعمار المقنّع ثم الأمريكية أدى إلى استنساخ النماذج العمرانية المستوردة بداية  في المستوطنات البترولية الأولى ثم في المراكز العمرانية اللاحقة. و هكذا فقد غدا التخطيط الشطرنجي للشوارع و المباني المستقلة عن بعضها و الفيلا  أو البرج الزجاجي النماذج العمرانية المتداولة.

 

لقد  كان و لا يزال لاقتصاد الوفرة أثره في التضخم العمراني و البذخ الذي تعيشه تلك المدن بفعل تراكم الثروات و الريع البترولي من جهة و غياب البدائل الاقتصادية الفعلية و التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى. لقد غدت تلك المدن مختبرا للتجارب العمرانية و مسرحا لاستعراض أعمال الشركات و المكاتب المعمارية الكبرى، كما تحولت إلى أجسام طفيلية ضخمة بفعل غياب النشاط الاقتصادي المحلي الفعلي و قلة الحرص على تحقيق الاختراق التكنولوجي و الاكتفاء بالاستيراد  و الاستهلاك، بدل العمل على إنهاء أو تقليص التبعية.

 

على المستوى الاجتماعي فإن مظاهر الحداثة الصارخة لم تستطع أن تمحي آثار الحياة البدوية القاسية و النظام القبلي الراسخ و الخصومات القديمة على الأقاليم و مصادر الماء والرعي و طرق التجارة و الترفع عن المهن و الحرف التي لم تنمح من المجتمعات الخليجية الحالية، حيث تنعكس  في تلك  المدن مظاهر توحي بغضاضة الظاهرة العمرانية و حداثة الاستقرار الحضري. من البديهي أن يترك هذا الوضع الانتقالي أو التصادم الثقافي أثره المباشر على المدينة الحديثة و على كيفية استعمال الفراغ العمراني و تنظيم المدينة بل و هويتها. و لعل أبسط مظاهر ذلك التضارب هو ذلك الحنين الذي لا يزال يراود العائلات الخليجية إلى حياة البر و الصحراء و الأفق الواسع و استعمال الخيمة رغم العيش في أفخم الفيلات و الأبراج، و كذلك الانتظام القبلي في الأحياء السكنية و توزيع الأراضي كصورة لاقتسام الثروة بناء على قوة القبيلة و مدى مزاحمة العائلة الحاكمة أو التحالف معها. إن هذه الظواهر  و غيرها لا تعكس بالضرورة العمران الإسلامي بقدر ما تمثل حالة استثنائية من العمران الانتقالي.

 

و إذا كانت المدينة كائن سياسي، فإن طبيعة النظام السياسي في الخليج المبني على المشيخة من جهة و المتزاوج مع تركز الثروات المالية الضخمة في أيدي الحكومات الفتية من جهة أخرى، لا بد أن يكون له الأثر المباشر في  التشكل العمراني لتلك المدن. فالسياسة التوزيعية الريعية التي انتهجتها تلك الحكومات بغية تحقيق العدالة الاجتماعية مثلا كان لها الأثر في مختلف مستويات التخطيط ابتداء من الإقليم و شبكة المدن الحديثة و المواصلات بينها إلى أدنى مستوى التصميم الحضري. و لعل أهم أوجه هذه السياسة العمرانية هو هيمنة يد الدولة العصرية، و ضمور دور المجتمع في القرار العمراني و إدارة المدينة. فالعوامل الاجتماعية و الثقافية و الإدارية و الطبيعية التي هي من أصل طبائع العمران كثيرا ما تقف متخلفة وراء العامل المادي و قرار الشيخ أو الأمير. كما إن للمرور السريع من نظام القبيلة إلى الدولة و تداخل قوانين المجتمع التقليدي و الهيكل الإداري لنظام المشيخة مع منظومة القوانين العمرانية المعاصرة المستوردة الأثر المباشر في إدارة تلك المدن و حياتها اليومية.

 

و تمثل العمالة الوافدة من مختلف أصقاع العالم إحدى مفاتيح تخطيط هذه المدن، التي ساهمت  في نموها بطريقة استيعابية ميكانيكية لا أثر للأبعاد الإنسانية فيها. فبناء العمارات للوافدين الذين جاءوا يطلبون الرزق  و يجمعون ما قدر لهم من ثروة ليعودوا إلى بلادهم، كان له الأثر المباشر على نشأة هذه المدن و نموها الميكانيكي. فقد أصبحت هذه المدن ملجأ للعمالة الوافدة و مكانا للإقامة المؤقتة التي تجعل من البيئة العمرانية فندقا كبيرا لا أحد يحس  بالانتماء إليه إلا بقدر ما يدفع من إيجار. و قد نشأت بذلك سوق عقارية تتاجر في توفير الحاجة إلى المأوى و تقوم على المضاربة و الاستثمار السريع.

 

  كما تمثل السيارة الخاصة مفتاحا آخر لفهم ماهية المدينة الخليجية الحالية. فقد خططت معظم المدن بطريقة الشبكة الشطرنجية والشوارع الواسعة التي تستجيب لانسيابية الحركة الميكانيكية و سهولة التنقل. فرخص الطاقة من جهة و البحث على الرفاهية المطلقة من جهة أخرى، دفع المخططين إلى رهن الحياة المدنية بامتلاك السيارات، و التضحية في كثير من الأحيان بالمشاة و بالبعد الإنساني والاجتماعي في تلك المدن.

 

لقد عاشت تلك المدن خلال العشريات الأخيرة بمنأى عن الأزمات التي تعيشها المدن الأخرى في العالم و ذلك بفعل الوفرة المالية التي تغطي كل العيوب، لكن استمرار هذا النمط يبقى مرهونا بدوام تلك الوفرة من جهة و غياب الكوارث المحتملة نتيجة الحياة الاصطناعية فيها من جهة أخرى.  

 

مع كل ذلك فإن مظاهر المدنية الإسلامية لم تندثر كليا في المدينة الخليجية المعاصرة و دليل ذلك ما يحتله المسجد من مكان و أهميته في تخطيطها و عمرانها و كذا ما توليه العائلات و الأفراد للقيم الإسلامية من خلال تصميم بيوتها و تنظيم فراغها الداخلي، لكن الإشكالية الكبرى التي تواجه مجدّدي العمران الإسلامي، انطلاقا من دراسة المدينة الحديثة في الخليج هو كيفية تخليص الإسلام من التقاليد المحلية و العوائد الراسخة من جهة، و حصر الاقتباسات غير الواعية و التأثيرات  السلبية للانفتاح على الغرب و رياح العولمة من جهة أخرى، ثم البحث عن البدائل الناضجة انطلاقا من الفكر الإسلامي و التراث الزاخر و التجارب الميدانية لتأسيس مدنية (النون قبل الياء) إسلامية معاصرة.

 

و لعله من هذا الباب أن المنطلق نحو دراسة المدنية الإسلامية المستقبلية في الحالة الخليجية بل و في كل البلاد العربية والإسلامية التي يطغي على اقتصادها ا لبترول هو فتح آفاق البحث في "مدينة ما بعد البترول" حيث أن ذلك سيكون بالإضافة إلى تفعيل الإسلام كعامل أساسي  أول في مختلف مجالات العمران السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية مدعاة لوضع أسس فكرية لمدينة المسلمين المستقبلية.

 

الاتجاهات العمرانية الحديثة و المدنية الإسلامية

من الطريف أنه في الوقت الذي يزدري فيه بعض مثقفينا العرب المدينة القديمة و يشهرون سيوفهم عليها،  أن يشير أكاديميون غربيون و يدعوا إلى العودة إليها لاستنباط الدروس منها كونها خبرة بشرية متراكمة و ناضجة عبر القرون. إن هذه الدعوات الجديدة تعتبر التخطيط العصري و مدارس تصميم الحالية لا تعدو أن تكون نتاجا لتجارب جزافية منقطعة عن تلك السوابق و وليدة الانبهار بالعصرنة و العقل و المنطق الإحصائي و الكارتيزي. لقد تبيّن أن ما كنّا نعتقده مثلا  نموا عشوائيا عفويا فاقد التخطيط، و نرى فيه شوارع متعرجة و مبان مكدسة و متضامة، هو عين الحكمة العمرانية التي نمت عبر مئات السنين و تظافرت عليها عقول البشر لتصنعها. لقد برزت نتيجة هذا التفكير مدارس تقوم على اعتبار المدينة القديمة مصدرا للاستيحاء و تصحيح مسار التخطيط المعاصر يدفعها إلى ذلك متطلبات التنمية المستدامة و مساهمة السكان و ضرورة اللامركزية الإدارية و ديمقراطية القرار و مستجدات النظريات التخطيطية مثل العشوائية و الكسرية.  و من هذه المدارس على سبيل المثال لا الحصر: المدرسة الإيطالية للتيبو مورفولوجيا بمدينتي باري و روما، و مدرسة الأوتوماتا في لندن، و مدرسة العمران الجديد أو نيو إيربانيزم في أمريكا بالإضافة إلى الأعمال الكبرى لكريستوفر ألكسندر و مدارس الواقعية الجديدة التي تهتم بالعشوائيات و بتحسين أوضاع المستوطنات البشرية القائمة. 

 إن مدرسة الدراسات التاريخية التطبيقية مثلا تعتقد أن هناك استمرارية ثقافية و نسقية بين الحاضر و الماضي، و أن التراث عبارة عن مخزون استراتيجي للاستنباط. و لعل مدرسة التيبو-مورفولوجيا التي نشأت في روما و فينسيا و باري هي إحدى أهم هذه المدارس التي لا يعاب عليها منهجها. فلم تعد الشوارع الضيقة والمتعرجة الموجودة حتى في المدن الأوربية القديمة هدفا للازدراء بل أصبحت في ظلال نظريات الاستدامة إحدى متطلبات التصميم و التخطيط البيئي و ذلك لارتباطها بمبدأ التطوير الأفقي المكثف الذي يعيد للمدينة مقياسها البشري و حيويتها الآدمية التي قتلتها السيارة و الآلة و سبيلا للتراكمية العمرانية الجديدة.

كما ظهر سيل من منشورات ما يسمى بالعمران الجديد أو البديل، نيو إيربانيزم في كل من أمريكا الشمالية و أستراليا الذي يقوم على نقد المدينة الأمريكية المعاصرة التي تطغى فيه السيارة على مناحي الحياة المدنية. فقد أخذت المدارس التخطيطية تعود إلى دراسة المدينة الأفقية المتضامة باعتبارها حضنا للعلاقات الاجتماعية و مصدرا للأمن و وسيلة للاستجابة لاستعمال الطاقة بعقلانية و مواجهة الاستهلاك العشوائي للأرض. 

 

من حيث المنهجية فقد وجد أن تخطيطنا للمدن يقوم على جهد عقل واحد هو مخ ذلك الخبير الذي يتميز بالقصور في احتواء حقيقة المدينة و أبعادها المتعددة، كونه يحاول أن يستبق المدينة فيصوّرها بطريقة اختزالية مفرطة، وفق حدود عقله و خياله المحدود. و فوق ذلك كله فإنه يفرط في كل تلك الخبرة البشرية التي تمتد عبر القرون، ضاربا بها عرض الحائط ليقوم بتجارب من بنات تفكيره في تخطيط المدينة و  التحكم في مصائر الناس.  كما أدرك المخططون بعد عقود من الإيمان بالتخطيط العلمي و الإحصاء و الإسقاطات الافتراضية أنهم لا يستطيعون اختراق حجب الغيب المستقبلي مهما طوّروا من طرق و مناهج. فكثيرا ما تتغير خططهم و تذهب أحيانا سدى عند التنفيذ أو بعد مضي عشرات السنين مثلما حدث في قرية بيساك بمرسيليا التي صممها المعماري العالمي الكوربيزي التي انقلبت رأسا على عقب بعد عشر سنوات من التنفيذ و تحوير السكان لها. و قد استثمر كل  من ألكسندر كريستوفر في مجلداته عن طبائع العمران و باتي بوب في تطبيقاته في التخطيط الآلي (الأوتوماتا) هذا الفكر، بينما اتجهت مدرسة التاريخية الإيطالية مثل كانيجيا و ميراتوري و ألدو روسي إلى تحليل الأنسجة الحضرية المتراكمة و المتعاقبة داخل المدينة كوسيلة للتخطيط و الاستمرارية.

 

في الجانب الإداري استنتج المعماريون و المخططون درسا مهما في التخطيط من المدن القديمة  و هو أن تعقد هندسة المدن القديمة وعاء تتشابك فيه حقوق الأفراد و المصالح، و هو بذلك يعبّر عن الإبداع الاجتماعي و يعكس نصيب الأفراد و المجتمعات  في المعرفة العمرانية و الاجتهاد الجماعي في تشخيص الحاجات و تنمية البيئة الحضرية و الإسهام المباشر في التخطيط و الإدارة و المتابعة. و قد تجسّد هذا المنهج في نظرية المشاركة أو المساهمة المباشرة للمواطن أو الساكن في صناعة القرار و إنماء المدن الذي يأتي على التخطيط العصري النخبوي من جذوره. كما يطرح على الساحة الفكرية رؤية منهجية جديدة في التخطيط العمراني. فالمدينة جسم معقد لا يمكن للعقل الواحد المتمثّل في المعماري أو المخطط أو الإداري أن يتحكم فيه مهما استعمل من وسائل آلية و طرق هندسية. و إن حدث ذلك فإنه يعني أن العملية اصطناعية، وهو ما نراه في مدننا المعاصرة التي كثيرا ما تناط بمخططين و معماريين كبار لكنها كثيرا ما تكون غير طبيعية و تشكو من عدم نضج لأنها ببساطة صدرت من عقل واحد غير قادر على استيعاب تعقد الحياة المدنية في بعدها الزمني الذي  يتجاوز حدود المخطَط و عقل المخطِط. إن ذلك يشبه علاقة الصحة العامة بوجود الطبيب أو الأطباء في المدينة الواحدة. فمداواة المرضى قد يساعد في تحسين الوضع الصحي للمجتمع، لكن مراعاة المجتمع و الأفراد لقواعد الصحة العامة و ثقافتهم الصحية ستكون بلا شك أهم عامل في الاحتياطات من الأمراض و الضامن الأكبر للصحة العامة بدل زيادة عدد الأطباء في المدينة. و يكون بذلك دور هؤلاء هو  القيام على سياسة التوعية و مراعاة الحالات الاستثنائية و المرضى.

 

إن إعادة النظر في الدور الحالي للدولة في إنشاء و إدارة المدن و من ثم وظيفة المخططين والمهندسين لا يعني إحالتهم على التقاعد أو العطالة. إنه ببساطة إعادة تعريف لذلك الدور و تحويله من الدور التسلطي الاستعلائي الذي لا يصمّم و لا يخطّط للناس إلا ما يعتقد صحيحا، و لا يعتبر إبداعا إلا ما يراه هو، إلى دور تمكيني و تفاهمي و هو الموضوع الذي كتب فيه الكثير.

 

لا يعني أن المدارس البديلة المذكورة و المناهج المطروحة في هذه الدراسة قد بلغت حدّ النضج و البديل النهائي للعمران العصري، كما لا يعني بالضرورة أنها استهوت أفئدة كل المخططين و المصممين لتنأى بنفسها عن كل نقد  و معارضة. لكن تعاظم الاهتمام بها و دخولها معترك النقاش الأكاديمي على أعلى مستويات البحوث بل و في بعض التطبيقات الميدانية يرفع عن المهتمين بالمدينة الإسلامية تهمة التخلف و اجترار الماضي و يفسح لهم المجال للمساهمة في الحوار العالمي و يضمن لهم حق الاختلاف على الأقل.

 

تعليق واحد

  1. I totally agree with this article. Good recommended website.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *