د. هاشم بن عبد الله الصالح – جامعة الملك فيصل ـ الدمام
الرأسمال المعنوي
لعل من النعم الكبيرة التي أفاض بها علينا التقدم العلمي والتكنولوجي في العصر الحديث أننا أصبحنا نمتلك نظرة شمولية للقضايا والتحديات التي نعيشها كبشر على هذه الأرض. فبعد مخاض عسير وبعد مسيرة طويلة من التجارب وبعد صراع مرير بين الرغبات التي ينشدها الإنسان والحقائق التي يفرضها الواقع, أدرك الإنسان أن التنمية لا يمكن أن تكون تنمية حقيقية ومتواصلة إن لم تكن تنمية عادلة, والعدالة لا يمكن أن تتحقق إلا على أساس من الحكمة, الحكمة في التعامل مع الأطراف ذات العلاقة بالموضوع والله سبحانه وتعالى يقول "من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا". فعندما استبعد الإنسان الموضوع البيئي من اهتماماته في ممارسته للتنمية وعندما كان الإنسان مشغولا فقط بقضية رئيسية واحدة لا غير وهي المزيد من الإنتاج من أجل المزيد من الاستهلاك. وعندما مارس الإنسان أنانيته وطمعه وجشعه في استنزاف الموارد الطبيعية كانت النتيجة كوارث بيئية ومخاطر حقيقية باتت تهدد حياة الإنسان ووجوده ومستقبله على هذه الأرض. هذه العودة إلى البيئة التي باشر بها الإنسان بعد أن أحس بالخطر الحقيقي, حيث إن الأمم والشعوب ستتقاتل على المياه العذبة لندرتها والدخان الذي تطلقه المصانع بالمليارات من الأطنان إلى الفضاء يهددنا بسخونة غير مسبوقة للأرض قد تذيب ثلوجنا وتفيض ببحارنا وتفقد الخصوبة من أرضنا ومزارعنا. فتحت الباب ولأول مرة أمام مراجعة لمفهوم التنمية وعندها دخلت مفاهيم جديدة على التنمية مثل العدالة والإنسانية والاجتماعية وكلها مفاهيم تهدف إلى انتشال التنمية من إطارها المادي الضيق وجعلها تنمية أكثر رشدا وأكثر استدامة وأكثر توازنا وشمولية. فلم يعد الرأسمال المادي أو النقدي هو المحرك الوحيد لعملية التنمية, فهناك الكثير من الدول والبلدان التي تفتقر إلى الموارد الطبيعية, ولكنها استطاعت أن تتجاوز هذا النقص باستثمار مواردها العقلية ورأسمالها الفكري ولنا في تجربة ألمانيا واليابان سابقا وكوريا وتايوان لاحقا خير مثال على ذلك. استطاعت هذه البلدان وما أخذت بتجربتها من البلدان الأخرى أن تقدم للعالم نموذجا من التنمية والرقي والتقدم قوامها العلم والمعرفة والإبداع الفكري, فالبرميل الواحد من النفط الذي تستورده هذه البلدان والطن الواحد من المواد الأولية التي تشتريه من الدول المنتجة لها يتحول عند هذه الدول إلى ثروة كبيرة بفضل علومها وفكر وإبداع أبنائها. وعندما اشتد التنافس بين الدول المتقدمة, وبالأخص في العقدين الأخيرين من القرن الماضي, أدركت بعض الدول ومنها دول عظمى أنها تعاني صعوبة كبيرة في مجاراة دول أخرى لا تمتلك من العلوم والمعارف والرساميل الكبيرة والجيوش الجرارة ما تمتلكه هي وكان السر وراء نجاح هذه الدول هو ما تمتلكه من رأسمال معنوي وما تختزنه ليس في أراضيها ولكن في نفوس مواطنيها من أخلاق ومبادئ وقيم معنوية. إذا كان البعض يعتقد أن دول العالم مشغولة فقط بالإنتاج العلمي والسباق في ميادين المعرفة فهذا خطأ كبير, فدول العالم أدركت أن المواطنة الصالحة هي الأساس لبناء حضارة المعرفة وحضارة الاقتصاد المستدام وحضارة التكنولوجيا النظيفة والخضراء والمسالمة للإنسان وبيئته. هذه العودة الأخلاقية التي نتلمس بداياتها ونتحسس بوادر انطلاقها في الدول المتقدمة هي وراء كل المحاولات والجهود التي تدعو إلى الاهتمام بحقوق الجميع, حقوق الإنسان, حق المرأة وحقوق الطفل وحق الأقليات وحق البيئة وحق من يشاركنا في هذه الحياة من نباتات وحيوانات وحتى الهواء والتراب والحجر والجبال والأنهار والبحار تجد هناك من ينبري وبحماسة للدفاع عن حقوقها. فالعدالة ومن خلال ضمان الحقوق هو رأسمال معنوي مهم التفتت إليه الكثير من الشعوب والأمم واستطاعت باستثمار هذا الرأسمال المعنوي أن تبني لشعوبها دولا متقدمة في المجالات كافة, وهي الآن أكثر إصرارا وأشد اقتناعا بدور الأخلاق والمعنويات لتحقيق قفزات أكبر في مسيرتها لتنمية بلدانها. ومن المؤسف جدا أن الشعوب العربية والإسلامية, وهي التي تحتضن في أراضيها كنوزا متعددة من الموارد الطبيعية, واستطاع العالم أن يستفيد من هذه الموارد, وأن يستثمرها أكثر منا وبأضعاف متعددة, فإننا نمتلك من الكنوز والموارد الأخلاقية والمعنوية ما يفوق ما نملكه من الموارد الطبيعية, ولكن إذا كنا قد فشلنا في استثمار مواردنا الطبيعية لتطوير أنفسنا وقدراتنا فإننا أشد فشلا وإخفاقا في استثمار مواردنا المعنوية التي لو حظيت منا باهتمام لغيرت من حالنا, واستطعنا أن نقدم للعالم وصفات علاجية للكثير من أزماته وللعديد من إشكالياته.
ومن دون أن يأخذنا الحديث بعيدا عن أهمية الأخلاق والمعنويات في تطور الشعوب والأمم وكيف أننا عندما ننظر إلى مثل هذه القيم والمعاني الأخلاقية على أنها رأسمال لا يقل قيمة عن الرأسمال المادي والفكري, فإننا بذلك نستطيع أن نحسن من استثمار هذا الرأسمال للارتقاء بأحوالنا وأمورنا لنواكب الشعوب والأمم المتقدمة. هناك الكثير من القيم المعنوية والأخلاقية التي نحن في حاجة إلى تنميتها ونفض الغبار عنها لكي تفعل فعلها في تحريك كوامن الطاقة في نفوسنا, ومن هذه القيم:
1 – الانتماء الوطني: لقد أدركت الكثير من الدول المتقدمة أهمية تعزيز انتماء الإنسان إلى مجتمعه ووطنه وشركته وبالتالي أولت هذه الدول وهذه الشركات جل اهتمامها لموضوع المواطنة والانتماء, وذلك من خلال برامج متعددة ومتنوعة وكلها تهدف إلى تعزيز روابط الإنسان بوطنه ومجتمعه. فالانتماء الوطني هو أقوى الروابط التي تدفع بالإنسان للمزيد من الإنتاج والمزيد من المحافظة على مكتسبات الوطن. فعلينا أن نزيد من رأسمالنا في مجال انتماء أبنائنا لبلدهم ولوطنهم. نحن مطالبون بالحرص على تقوية انتمائنا الوطني, فالأطفال والشباب والرجال والنساء والعمال والتجار والكبار والصغار كلهم في حاجة دائما إلى تعزيز روح الانتماء التي تفجر فيهم طاقات وإبداعات للارتقاء بالمجتمع والوطن.
2 – العمل الجماعي: لعل أكثر ما يتسم به عصرنا الحالي هو أن من مستلزمات النجاح المهمة أن نعمل بشكل جماعي وفي إطار فريق منظم. ليس هناك دين مثل الإسلام يدعو أتباعه للصلاة جماعة خمس مرات في اليوم ومع هذا فنحن أقل شعوب العالم ممارسة للعمل الجماعي. علينا أن نلتفت إلى أننا فقراء جدا في العمل الجماعي وعلينا أن ننمي من رأسمالنا في هذا المجال, ولتشترك التربية والثقافة والإعلام والأنظمة كلها من أجل تنمية قيمة العمل الجماعي عندنا.
3 – احترام الوقت: يعتبر الوقت الوعاء الذي يصب فيه الإنسان جهده وعمله وكلما كان عطاء الإنسان قليلا كان وعاء وقته فارغا وخفيفا, نحن أكثر شعوب العالم إضاعة للوقت, فما أيسر علينا أن يمضي الوقت ونحن نتكلم من دون فعل ملموس فيذهب وقتنا هدرا. وعدم احترام الوقت هو الذي جعلنا لا ندرك أهمية التخطيط في حياتنا وكانت النتيجة أن دبت الفوضى في حياتنا.
4 – النظام: هناك الكثير من المفكرين من يعتبر النظام هو الأساس لبناء الحضارات وهو حجر الزاوية لتقدم الشعوب, فلا يمكن لأمة أو دولة أن تبني نفسها وأمورها في فوضى أو شؤونها تدار بشكل غير منتظم. ونظرة فاحصة في تفاصيل حياتنا تكشف لنا أننا لا نعرف النظام في ممارسة أمور حياتنا, علينا أن نضع الخطط والميزانيات لتنمية ثروتنا من النظام لأن فقرنا في هذا المجال هو بعثرة لجهودنا وضياع لمواردنا وتخبط في حركتنا وتعطيل لقدراتنا.
5 – احترام الرأي الآخر: إذا كانت المجتمعات تفتقر إلى ثقافة الحوار وتبادل الأفكار واحترام الرأي الآخر فإن هذا يعني موت الإبداع, وبالتالي ستبقى حركتها مرتبطة بأفكار قديمة وغير متجددة وطرق غير منتجة. إننا عندما ننمي من قيم تدفع بنا للانفتاح على الآخر فإن هذه القيم ستؤسس لنا بيئة ومناخا يشعر فيه المجتهد بالرأي أن بإمكانه أن يدلي برأيه من دون خوف, وهذا الشعور كفيل بتحويل المجتمع إلى مجتمع معرفي.
6 – الشفافية: كلما استطعنا أن نكسب المزيد من حضور الشفافية في أعمالنا وممارساتنا, فإننا بالتأكيد سنكون أقدر على إصلاح الكثير من أمورنا, فالعتمة والظلام يشكلان بيئة مناسبة للفساد وتجاوز الأنظمة, وبالتالي علينا أن نحرص على جعل الأمور تدار بشفافية. إن الخطوة التي أقدمت عليها الدولة بتأسيس هيئة لمحاربة الفساد هي خطوة تستحق الدعم وعلينا أن نجعل من فكرة محاربة الفساد مكونا رئيسيا في خطابنا الثقافي والإعلامي ومرجعية مهمة في الإطار التشريعي والتنظيمي لأن الفساد بمثابة ثقب أسود قادر على ابتلاع الكثير من مواردنا وثرواتنا. علينا أن نمكن هذه القيمة المعنوية في نفوسنا حتى تصبح مهمة محاربة الفساد مهمة وطنية وليست قضية تناط مسؤوليتها للدولة فقط.
وفي الختام نستطيع القول إننا وبقدر ما نمتلك من احتياطيات ضخمة من النفط والثروات الطبيعية, فإننا نمتلك أيضا ثروة أخلاقية وموارد معنوية, وإن لم نستخرج هذه القيم والأخلاق ونستثمرها في بناء أنفسنا ومجتمعنا فإن الموارد الطبيعية من نفط وغيره قد تعيننا على بناء المدن والمباني والطرق والمصانع, ولكن من دون قيم وأخلاق تؤطر ممارساتنا وترشد أفعالنا وتجمع جهودنا, فلن يستطيع هذا التحول المادي أن يبني لنا إنسانا ينتج لنا حضارة وتنمية حقيقية.
———————————————————
جريدة الإقتصادية الجمعة, 13 صفر 1428 هـ الموافق 02/03/2007 م – – العدد 4890