لم أجد جواباً شافياً كافياً مقنعاً عن حالات التوهان التي تعتري تخطيط المدن.. ويكفيك السير داخل الكثير من أحيائنا الجديدة لتصيبك الدهشة والريبة على ما يحدث..
يقال
إن أحد الأشخاص الذين لا يحترمون النظام، ولا يحبون الانصياع له ذهب لإنهاء معاملة له في إحدى الدوائر التي قررت أن تتعامل بنظام، وتطلب من المراجعين الوقوف في صف أو صفوف أمام الشبابيك للحؤول أمام الحالات المعتادة التي نشاهدها كل يوم. وفي كل مكان من القفز والتدافع، المهم دخل اخونا ودون تفكير تجاوز كل الصفوف المنتظمة
ومباشرة تقدم الى الموظف ومد يده من فوق الرؤوس، وتحدث بصوت عالٍ طالباً إنجاز أوراقه وبسرعة،
ولكن الموظف طلب منه العودة للوراء والانتظام كغيره والانتظار، وهو الشيء الذي لا يريده !
وبعد سجال لم يكن بيده حيلة فتراجع منكسراً ناظراً للموظف وللصفوف المنظمة
وقال «والله فوضى»!
نعم ذلك الرجل وصلت القناعة لديه بأن قمة الفوضى هي الالتزام بالنظام، وهناك من جهة أخرى من يحيل ما يُفترض أن يكون نظامًا إلى فوضى عارمة تشيع في المكان، وتجعل العاقل غير قادر على الاستيعاب أو الإدراك.
وحديثي اليوم عن ما أسميه «تخبيص» المدن، والذي يحدث على مرأى ومسمع، بل وبدمغة وموافقة إدارات ما يُفترض بأن تكون تخطيط المدن!
والتي يئسنا ونحن ننتظر منها جزءاً من مدينة مخططة بما تحمله الكلمة من معنى، كما أننا سئمنا التبريرات المملة والتي ترمي باللائمة على الغير، وتبرّئ ساحة من يرسمون الطرق المعوجّة والأحياء الملتوية، ناهيك عن الاهتمام بالبنية التحتية قبل الشروع في أي مشروع.
هذا المسلسل من «الفوضى» مستمر ومنتشر في أنحاء مدننا وقرانا وهجرنا، وقد زاد الطين بلة الاعتماد على أهل المخططات في إنجاز ما كان يُفرض بالبلديات والأمانات القيام به، وهم -أي أهل تلك المخططات- ملوك إطلاق الوعود ورسم الأوهام ليس في السر وبالصوت المنخفض، بل بالصوت المرتفع وبالإعلان الذي يملأ الأماكن،
وبالطبع بعد التسويق والبيع على المساكين يكتشف الموهوم الواقع المر.. إذ لا كهرباء ولا ماء ولا هاتف ولا صرف أو «نصف استواء»، ثم يجد نفسه مجبراً أن يصمت ويصبر أو يشتكي للمخططين في البلديات والأمانات، وهما أمران أحلاهما مر.
وحتى هذه اللحظة فلم أجد جواباً شافياً كافياً مقنعاً عن حالات التوهان التي تعتري تخطيط المدن لدينا، ولم أجد سبباً واحداً يقنعني بأن ما قامت وتقوم به شركة أرامكو في المنطقة الشرقية على سبيل المثال نوع من المعجزات التي لا يستطيع مهندسونا وأصحاب المخططات لدينا عمل مثله،
ويكفيك السير داخل الكثير من أحيائنا الجديدة وفي أي مدينة شئت لتصيبك الدهشة وعلامات الشك والريبة على ما يحدث وما لا يمكن فهمه، خاصة في زمننا الذي لم تعد الأعذار الواهية مقبولة.. كالخوف من المتسلطين والمتنفذين والذين وإن وجدوا فلن يكونوا حجر عثرة لكل مخطط، وفي كل مدينة وقرية، بالله عليكم ذكّروني بشارع واحد أو حي واحد بقي سنة كاملة منذ ثلاثين عامًا حتى يومنا هذا دون حفر وردم! ثم حفر وردم! ثم حفر دون ردم؟
وهنا حتماً ستبرز أهمية العمل المشترك بين القطاعات المختلفة، والتي من المفترض أن يكون دوراً اساسياً تقوم به وزارة التخطيط. ومع ذلك -أي مع غياب الخطط الكبرى- يظل اللوم قائماً على المسؤولين عن تخطيط المدن وتخطيط دواخل المدن، والذين يتجاهلون التنامي المطرد في أعداد البشر، واختلاف أنماط معيشتهم وعملهم، ووسائل نقلهم مما يزيد العبء على الشوارع والمرافق والتي خطط لها أن تستوعب الأعداد والظروف قبل سنوات طويلة. مشكلة العشوائية المستفحلة في المدن الكبرى في بعض الدول العربية مثل القاهرة تم معالجتها بالخروج، وبناء مدن صغيرة نموذجية خارج النطاق العمراني. وقد نجحت القاهرة في ذلك رغم المعوقات الكبرى هناك، ونحن لا نزال نحاول ان نقنع انفسنا أن إهدار عشرات المليارات في إطار خمسة كيلومترات وسط جدة لإلغاء العشوائية هو الحل، في رأيي أن الخروج من الصندوق أجدى، ولكن ربما يصح المثل «المهندسون أبخص».
———————————————————————
جريدة المدينة – الأربعاء 17 صفر 1427 – الموافق – 7 مارس 2007 – ( العدد 16023)
|