قطار الأنفاق .. ومسؤولية القرار

لم يعد خافيا أن المدن السعودية تعاني من مشكلة الازدحام المروري وهي تتفاقم يوما بعد يوم نتيجة التزايد الحاد في عدد سكانها. إن مشكلة الازدحام المروري أشبه ما تكون بالمرض الخطير الخفي الذي ينتشر تدريجيا وفجأة يقضي على صاحبه. الجميع يحس المشكلة، المسؤولين والسكان، إلا أن أحداً لم يعر المشكلة الاهتمام اللازم ولم ترتق لتحتل أولوية في أجندة العمل الحكومي المحلي. وأخشى إذا لم نقم بعمل شيء ما لمعالجة المشكلة سيأتي اليوم الذي ستترهل فيه المدن وتكون عاجزة عن الحركة. ومشكلة الازدحام المروري لا تقف عند حد التأخير وهدر الوقت وهو بلا شك يسجل خسائر اقتصادية كبيرة يتحملها الاقتصاد الوطني، ولكن أيضا لها تأثيرات جانبية سلبية يأتي في مقدمتها التلوث بجميع أشكاله وأنواعه وتبعات ذلك على الصحة العامة وراحة السكان. وكلما كان التفكير في وضع حلول لمشكلة الازدحام المروري مبكرا، كان علاجها أقل تعقيدا وتكلفة.
لقد نُفذت مشاريع أنفاق وجسور وطرق كثيرة وتوسعة للشوارع داخل المدن للتقليل من الازدحام، وعلى أن هذه المشاريع أسهمت في البداية في فك الاختناقات المرورية، إلا أنها ما لبثت أن عادت ظاهرة الازدحام في الظهور مرة أخرى. ويبدو أن المرور (المركبات) مثل الماء يبحث عن فراغات لملئها. فكلما كانت هناك طرق وشوارع جديدة وتوسعة لأخرى زادت أعداد مستخدمي الطريق.
إن معالجة المشكلة تقتضي التفريق بين العرض والطلب على وسائل النقل. فلدينا إصرار في النظر للمشكلة من جانب واحد فقط وهو كيف لنا أن نستوعب أرتال السيارات التي تغص بها الشوارع والطرقات فنقوم بتوسيع الشوارع وإضافة أخرى. ومن دون أن نعلم، نكون قد وجهنا بطريقة غير مباشرة الدعوة لسكان المدن لزيادة استخدام الطرق. فحينما تكون هناك زيادة في العرض بتوسيع الطرق أو زيادة أعدادها نكون قد شجعنا على استخدام الطرق بشراهة ودفعنا بالطلب إلى معدلات تفوق معدل الزيادة في العرض. هناك نظرية في الاقتصاد تنطبق تماما على هذه الظاهرة وهي أن العرض يخلق طلبه! فكلما كان الشيء جذابا أدى إلى زيادة الطلب عليه. بمعنى آخر، إن العرض في هذه الحالة يسبق الطلب وبالتالي يكون الحل جزءا من المشكلة! وهكذا ندخل في دوامة من زيادة العرض التي تؤدي إلى زيادة الطلب الذي يقود بدوره مرة أخرى إلى زيادة العرض… ولن ننتهي أبدا وكأن أحدنا يريد الإمساك بطرف ثوبه من الخلف.
ما ينبغي هو عدم حصر الطلب والعرض في نطاق المركبات والنقل الخاص لأنه، كما سبق ذكره، لن نصل إلى نتيجة. ما يلزم التركيز عليه هو التحول من النقل الخاص إلى النقل العام أو الجماعي. إذ إن ذلك يؤدي إلى زيادة الكفاءة والفاعلية في نقل أعداد كبيرة من مستخدمي الطريق بأقل عدد من المركبات مقارنة بالنقل الخاص. ولكن السؤال، ما نوع وسيلة النقل العام التي ستكون أكثر كفاءة وفاعلية؟ وأهم من هذا، هل ستكون مقبولة اجتماعيا؟ لقد أثبتت تجربة النقل الجماعي واستخدام الحافلات الكبيرة أنها تخفف من وطأة المشكلة، ولكن لا تعالجها. فالحافلات تبقى جزءا من الطلب على الطرق والشوارع، كما أن مستخدمي النقل العام هم ممن لا يملكون مركبات خاصة وبالتالي لا يمثلون جزءا من معالجة مشكلة الاستخدام الخاص للطريق سوى أنهم يقللون من عدد سيارات الأجرة وسيرها في الشوارع. لذا فإن ما ينبغي عمله هو التركيز على إقناع مالكي المركبات الخاصة بالتحول إلى استخدام النقل العام بدلا من استخدام مركباتهم. إلا أن حافلات النقل العام ليست جذابة وليست معدة لهذا الغرض وتكتفي بنقل أولئك الذين لا يملكون مركبات وغالبيتهم من العمالة الأجنبية. إذاً ما يجب عمله هو البحث عن وسائل نقل عام تكون مقبولة لدى عموم السكان لدرجة اجتذابهم لاستخدامها والتخلي عن استخدام مركباتهم الخاصة. قد يكون من أهم خصائصها السرعة والراحة والسلامة والأمان والفخامة، هذا من ناحية الخدمة، ولكن يجب الأخذ بعين الاعتبار أن يكون نظام النقل العام خارج منظومة النقل الحالي بحيث لا يتداخل معه ويشكل تضاربا وتنافسا على بعض نقاط التقاطع بين النظامين.
من هنا كانت فكرة إنشاء قطار الأنفاق هي الأكثر مناسبة لحل مشكلة الازدحام المروري وتحويل الناس إلى النقل العام. المشروع يتطلب رأسمالا كبيرا لإنشائه إلا أن مردوده الاقتصادي على المدى المتوسط كبير، ما قد يكون مغريا لإنشاء شركة مساهمة للقيام بهذا المشروع الضخم بشراكة حكومية. لا شك أن مثل هذا المشروع سيكون الحل الجذري لمشكلة المرور ليس ذاك وحسب، ولكنه سينعش ويحفز الاقتصاد المحلي للمدن ويزيد من دخلها. وهو أمر في غاية الأهمية إذ إن من شأنه توفير وظائف للشباب في مختلف المهن وبمستويات دخل متفاوتة. كما أن وجود قطار الأنفاق واتصاله بقطارات مع مدن المحافظات الرئيسة المحيطة سيؤدي إلى تحريك الموارد وتحقيق التنمية المتوازنة والمساهمة في إدارة نمو المدن الكبيرة والحد من المظاهر السلبية لزيادة حجمها. إن مثل هذا المشروع يتطلب تضافر الجهود والرؤية المشتركة بين الفاعلين في المجتمعات المحلية وخاصة في المدن الكبيرة.
ما يلزم فهمه هو أن المدن ليست مكانا للعيش فقط ولكن للإنتاج أيضا، ومن بين أهم العناصر المؤثرة في التنمية المحلية هو النقل وسهولة الوصول إلى الموارد الطبيعية والبشرية، وكذلك سهولة توزيع المنتجات على المستهلكين. هذا بلا شك من أهم عوامل جذب الاستثمار لاقتصاد المدينة. اقتراح مشروع قطار الأنفاق ليس من باب الرفاهية الاجتماعية وتحسين المظهر الحضاري للمدن ولكن لأنه أمر ضروري وأساس في معالجة مشكلة الازدحام المروري التي تتراكم مع مرور الوقت وتزداد سوءا. وقطارات الأنفاق في كثير من المدن العالمية لم تبدأ مع البدايات الأولى لنشأة المدينة فعلى سبيل المثال واشنطن العاصمة الأمريكية لم يبدأ مشروع قطار الأنفاق إلا مع بداية الثمانينيات من القرن المنصرم. المشروع ضخم مكلف ماديا ومزعج لسكان المدينة يجب أن يتحمله الجميع. إلا أن هناك مشكلة أساسية تواجه المدن في تنفيذ هكذا مشروع وهو عدم وجود هيئة محلية مناط بها عملية صنع القرار المحلي. هذا التشرذم للجهات الحكومية المحلية لا يساعد على وضع تصور وخطط لمواجهة أزمة المرور التي تتداخل فيها جميع القطاعات. ولذا تركت المشكلة المرورية دون حل جذري وترك الحبل على الغارب كل إدارة تعمل من خلال منظور جهوي ضيق على أساس بيروقراطي مشبع بالإجراءات الروتينية الورقية. من هنا كان لزاما النظر إلى مشكلة المرور على أساس شمولي تكاملي بين القطاعات المختلفة يدفع نحو إيجاد آليات تمكن من التعرف على طبيعة وحجم ونوع ومسببات المشكلة ومن ثم وضع الحلول الناجعة لها. قطار الأنفاق مطلب شعبي صامت يجب مناقشته فوق الأرض وفي الضوء لنتمكن من عمله تحت الأرض!

د. عدنان بن عبد الله الشيحة  
مدير مركز الأمير سلمان للإدارة المحلية
جامعة الأمير سلطان

====================================

الأحد, 23 جماد ثاني 1428 هـ الموافق 08/07/2007 م – – العدد 5018

تعليق واحد

  1. I can't believe you're not plainyg with me–that was so helpful.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *