بدأت تطفو على السطح في الآونة الأخيرة أفكاراً من أصحاب المال والأعمال لبناء المدن الجديدة تسد حاجة السكان من السكن الذي يعد من أهم مقومات وجودهم على الأرض بعد المأكل والمشرب، فهل أفكار هذه المدن اقتصادية يهدف القائمين عليها الربح المادي فقط ؟، أم أنها ستزاوج بين الربح و المعايير الدولية في إنشاء المدن الجديدة ؟، وهل القائمون عليها سيدرسون أفكار المخططين الذين ساهموا في تخطيط المدن العالمية ويتبنون الناجح منها وعلى اساسها يكون البناء؟، وما هي الأبعاد والمحاور والمعاييرالواجب أخذها في حسابات المخططين لهذه المدن؟،
والبداية تركز على ما هية أهدافنا كفلسطينيين وكمخططين.
فالحال الفلسطيني تحت السيطرة الإسرائيلية شبه الكاملة يجعل أول أهدافنا الاستراتيجية من بناء المدن هو الهدف السياسي لمواجهة المد الاستعماري الإسرائيلي الذي خلق واقعاً عمرانياً خطيراً قطّع أوصال شبكة الاستيطان البشري الفلسطيني، متبعاً سياسة الإحاطة والتغلغل في السيطرة على الأرض، حيث عمل على بناء أحزمة من المستعمرات حول المدن الفلسطينية، مما خلق نمطاً عمرانياً مشوها داخلها، وله تبعات على حياة السكان والمتمثلة بالكثافة السكانية العالية، وارتفاع أسعار الأراضي داخل المدن…الخ.
كما وتشكل الأهداف الاجتماعية والاقتصادية والبيئية أهمية بالغة، وضرورة الأخذ في تفصيلاتها والتي سيأتي هذا المقال على ذكرها عند الحديث عن معايير بناء المدن الجديدة.
وعلى المستوى العالمي تباينت الأهداف الكامنة وراء بناء المدن، منها ما استهدف نشر التنمية الصناعية وتخفيف فجوات التباين في مستويات التنمية بين الأقاليم كما هو الحال في بريطانيا، ومنها لتخفيف الضغط عن المدن الكبرى كما في فرنسا ومصر، وأخرى لبناء عواصم جديدة للدول مثل استراليا والبرازيل، وغيرها هدفت لاستغلال الموارد الطبيعية كما في المدن الصناعية بالمملكة العربية السعودية كمدينة الجبيل، وأخيرا المدن الجديدة التي كانت نواة توسعها وازدهارها المؤسسات التعليمية أو الخدمات الطبية المتقدمة كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية.
المشكلة
بدأت مؤخراً مشكلة توفير السكن المناسب في الحيز الحضري الفلسطيني ( المدن ) بالظهور واهتمام شرائح مختلفة من المجتمع بها، وخاصة أصحاب الدخول " المتوسطة والمتدنية "، ومما زاد في هذه المشكلة الإجراءات الإسرائيلية المتمثلة ببناء المستعمرات وجدار الضم والتوسع العنصري، ومصادرة الأراضي لأغراض تسمى أمنية والطرق الالتفافية، ومعظم هذه الأشكال تمارس في محيط معظم مدن الضفة الغربية، الأمر الذي أدى إلى خنقها وتحجيم توسعها وتطورها بما يناسب احتياجات سكانها الآنية والمستقبلية.
وأدى الإختلاف في ظروف الحياة البشرية داخل الحيز الحضري الفلسطيني من جهة وبين الريف والحضر من جهة أخرى، إلى تفاوت في كفاءة الخدمات المقدمة، فقطاعات الحضر تستأثر بالخدمات والمرافق المتوفرة أكثر منها في الريف، فيما تستأثر قوى حضرية على خدمات أفضل من أخرى داخل المدينة نفسها، والحالتان أوجدتا نمطاً عمرانياً انعكس سلباً على معظم السكان، مما دفع قاطني الريف، والذين يمكن تقسيمهم إلى فئتين، الهجرة للمدن: فمنهم من لا يحملون شهادات علمية أو مهن يعملون بها محاولين الاستفادة مما توفره من أعمال بسيطة تخرجهم من فقر القرية ويقطنون في مناطق داخل المدينة لا تحوي في أحيائها ما يسد الحاجة من المرافق والخدمات.
وتتكون الفئة الأخرى من حملة الشهادات العلمية والمهن التي تؤهلهم للعمل في قطاعات راقية كالاشتغال في الوظائف العليا في السلطة أو المؤسسات الخاصة أو قطاع الاتصالات…الخ، وهؤلاء يذهبون للسكن في مناطق أكثر رقياً، وفي الحالتين يطلق على اسم الانتقال مصطلح "التحضر "، أي "انتقال الناس من السكن في القرى إلى المدن" ولم يواكب هذا الانتقال التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي عادة ما تتوفر في العالم الغربي، كتوفير الخدمات المناسبة والعمل المناسب والذي يتوافق ومهنة وهدف المهاجر إلى المدينة.
وعلى مستوى الضفة الغربية تركزت الهجرة من الريف إلى المدن الكبرى كنابلس، الخليل ورام الله والبيرة، فيما تأخذ الأخيرة نصيب الأسد من مؤسسات السلطة الفلسطينية وأجهزة الدولة الكبرى، ومؤسسات ومنشآت القطاع الخاص، والعمل الأهلي.
وفي المدن الثلاث أثرت العوامل الجغرافية، السياسية والاقتصادية على جاذبيتها للسكان، فثلاثتها تحتل موقعاً جغرافياً يدعم احتواءها للمحيط الموجودة فيه، أو ما يسميه البعض "الظهير الجغرافي"، الذي يدفع تجاه تشكيل وقيام نمو اقتصادي كافٍ إلى حد ما، تلبي المدينة من خلاله حاجة سكانها والوافدين إليها، فيما تميزت رام الله عن المدن الأخرى بالخصوصية السياسية كمكان إقامة مؤقت للسلطة قبل انتقالها إلى العاصمة المحتلة مدينة القدس، فيما يشكل الوضع التجاري والصناعي والتعليمي في مدن نابلس والخليل هدفا يقصده كل من يبحث عن فرصة عمل من القرى التابعة لها وحتى المدن الأخرى.
وإضافة إلى أن الإختلاف في الظروف الجغرافية " الطبيعية منها والبشرية" يسهم في اختلاف العمران، جاءت بعض الأفكار، والتي ربما تكون قريبة للتطبيق على ارض الواقع، لبناء مدن جديدة تقلل من الضغط الموجود على المدن الرئيسة، وتوفر السكن المناسب لذوي الدخل المحدود.
الأفكار التخطيطية
هناك ثلاثة خيارات أمام المخططين الفلسطينيين والمستشارين الذين سيعملون على وضع اللبنة الأساسية في تخطيط أي مدينة جديدة، وليست هذه هي الخيارات فحسب ولكن كان اختيارها نظراً لإمكانية تطبيقها فلسطينياً وكونها مختلفة عن بعضها في بعض أهدافها.
فالخيار الأول هو لبيتر بوتكن الذي يقول "إن نمو المدينة الكبرى يحمل بين طياته عوامل الفشل"، الناتج عن الزيادة الكبيرة للسكان، وما يتبع ذلك من ضغط على مرافق وخدمات المدينة، فيقترح بناء مدن جديدة تعمل على تخفيف الازدحام السكاني، وبذلك تكون نواة جديدة قد نشأت ستوفر مجالات عمل للكثير من الأيدي العاملة المدربة وغيرها، تخف من خلالها نسبة البطالة والتي تترواح في الأراضي الفلسطينية ما بين 25-30 % من الأيدي العاملة.
ومن المؤكد أن لهذا الخيار تحديات، كما للخيارات الأخرى، تتمثل في المعيقات الإسرائيلية للموافقة على بناء المدن الجديدة أو أي نشاط كبير من شأنه أن يثير حفيظة الاحتلال والذي إذا ما رفض الفكرة سيعيدها إلى أسباب كعادته يسميها أمنية.
فبناء المدن الجديدة غير المعتمدة على أساس إقليمي كان وارداً في معظم الدول النامية والتي تتوفر فيها مساحات واسعة من الأرض مثل جمهورية مصر العربية التي وضعت توجهاً استراتيجياً لتعمير الصحراء، فبنت العديد من المدن ومنها مدينة العاشر من رمضان، وكان لهذا التوجه نجاحاته في تعمير ما لم يكن في الحسبان، إضافة إلى حل جزء يسير من المشكلة السكنية مع بروز المشاكل الاجتماعية؛ بسبب تنوع الشرائح التي انتقلت إلى السكن في هذه المدينة مع تحسن في الدخل القومي، والمثال الآخر هو مدينة بلمس البرازيلية التي أنشئت عام 1989 بشراكة الدولة والقطاع الخاص، واثبت هذا التوجه نجاحاته على الرغم من المعيقات الاجتماعية التي تحدثت عنها دراسات خاصة بالمدن المخططة حديثاً.
أما التوجه الثاني فهو لريموند يونين، والذي يقول "فرط الزحام لا يعود بأي مكسب" فيقترح بناء ( المدن الضواحي) المربوطة بشبكة مواصلات مع المدينة الأم لتخفيف الكثافة السكانية داخل المدينة، وما سيتبعه من تخفيف للازدحامات المرورية، وهو خيار لم يشجعه المخططون في العصر الحالي، إلا إذا كانت الإدارة الحضرية لهذه التجمعات منفصلة تماما عن إدارة المدينة الام، ولها مخطط عام يضع في حساباته حزاما ارضيا يمنع البناء فيه حتى لا يحصل التواصل الجغرافي مع المدينة الام، فالتجربة المصرية بهذا الشأن أظهرت أن سنوات قليلة وستصبح الضواحي جزء من المدينة لتظهر مشاكل جديدة تحتاج إلى حلول، فلم يعد هناك فاصل بين مدينة نصر ومدينة القاهرة، ليزداد العبء الملقى على عاتق الإدارة الحضرية التي ما لبثت أن تنفست الصعداء من التخفيف الناتج عن بناء المدن الجديدة لتعود إليها ثانية.
فيما كان التوجه الثالث الأكثر شمولية وهو التخطيط الإقليمي، وأول من نادى به هو باترك جددز وحسب رأيه يجب أن يكون تخطيط المدينة ذا رؤية شاملة، وفي كتابه " المدن في التطور"، اعتبر أن الهدف من تخطيط المدينة يتمثل في خلق بيئة صحية جذابة، ولتحقيق ذلك يجب أن يعمل رجال الجغرافيا والتخطيط والتاريخ والاجتماع والأحياء والصناعة والثقافة؛ لخلق هذه البيئة. فيكون إنشاء المدينة من منظور إقليمي واسع تتحقق من خلاله خطط الدولة التي يتوفر فيها مخطط قومي للإسكان، بالإضافة إلى مخطط استعمالات الأراضي.
ولأن الأراضي الفلسطينية تفتقر إلى مثل هذه المخططات؛ بسبب السيادة المحدودة للسلطة الفلسطينية على الأرض، فإن اختيار مواقع المدن الجديدة لن يخضع لمعايير تخطيطية سليمة، إلا إذا اجريت الدراسات المعمقة القادرة على تقليل الفجوات الناجمة عن الحالة الاستثنائية التي تعيشها الأراضي الفلسطينية.
وأثبتت التجارب أن الخيار الإقليمي هو أفضل الخيارات التخطيطية عند التفكير بإقامة المدن الجديدة.
كما هو متبع في بناء المدن الاوروبية والامريكية القائمة على أساس امتلاك الدولة لمخطط للإسكان واستعمالات الأراضي لتكون المواقع المرشحة للاستخدام السكني وبناء التجمعات العمرانية الجديدة معروفة سلفاً،
المعايير التخطيطية
وثمة معايير تخطيطية يجب أخذها في الحسبان عند التفكير ببناء المدن الجديدة، ومنها المعايير الاستراتيجية القومية، وهي مرتبطة بالسلم القومي الداخلي كعلاج المناطق المتدهورة عمرانياً والمناطق العشوائية، والتي تعاني منها المدن الرئيسة في الدولة.
ونظرا لخصوصية الحالة الفلسطينية، فان قضية الحفاظ على الأراضي من المد الاستعماري الإسرائيلي يشكل هدفاً استراتيجياً وقائياً على الرغم من الصعوبات التي تواجه تحقيقه ولكن التجارب في مواجهة الجدار والإصرار على ازلة ما يمكن إزالته كانت ناجحة إلى حد ما، ومنها المعايير العمرانية كالقرب من التجمعات العمرانية للاستفادة من الخدمات القائمة في مراحل التنمية الاولى بالإضافة إلى الاستفادة من البنية الأساسية الداعمة كشبكة الطرق الرئيسية والمياه والكهرباء.
أما المعايير الاقتصادية تتمثل بالقرب من مراكز اقتصادية كوجود قاعدة صناعية أو تجارية بالإضافة إلى القرب من عقد المواصلات، فيما تشكل مراعاة المعايير الاجتماعية مسألة مهمة للغاية، كتفضيل السكن في المدن الجديدة لمناطق الطرد السكاني والمناطق المحرومة من الخدمات والاستثمارات ومناطق البطالة المرتفعة ( أصحاب الدخل المحدود ).
وفيما يخص المعايير الطبيعية والبيئية، فيجب أن تكون الدراسات البيئية قد أخذت طريقا لها قبل قول القائمين على الموقع كلمتهم نظرا لأهمية هذا المعيار المستقبلية في توسع المدينة كاختيار الموقع الذي يتيح سهولة التوسع المستقبلي دون عوائق، إضافة إلى الدراسات الجيولوجية التي تظهر صلاحية المكان لإقامة المدينة فيه.
المحاور
وعن المستويات والمحاور التي يجب أن تستند إليها خطط إنشاء المدن الجديدة، فتتلخص عند معظم الدول بمحورين احد هما على المدى البعيد والآخر على المدى القريب، كما يتوجب على القائمين عليها العمل بالتنسيق مع الوزارت المعنية كالإسكان والأشغال العامة، وزارة التخطيط، والحكم المحلي، وسلطة البيئة وسلطة الأراضي…الخ، لا أن تكون هذه المؤسسات مجرد مُسير امور وموافق عن بعد على بناء المدينة؛ لأن القائمين على إنشائها ربما تكون أهدافهم ربحية بحته دون أن تكون قد اتضحت الأبعاد الحقيقية وراء بناء المدينة، تلك الأبعاد التي وضعتها الدول نصب أعينها عند حاجة بناء مدن جديدة.
وعلى محور المدى البعيد يجب أن يكون الهدف فتح آفاق وتوجهات جديدة للتنمية في مختلف مدن الضفة الغربية واستغلال المناطق التي تتمتع بمقومات طبيعية وتعميرها لتكون ضمن المخزون القومي من الإسكان، سواء ببناء مدن جديدة أو ضواحي سكنية، إضافة إلى محاولة تعمير المناطق التي تقع في دائرة الاهتمام الاستعماري الإسرائيلي للتضييق على كل المخططات التوسعية المعاكسة.
أما على المدى القريب فيكون الهدف توفير السكن لذوي الدخل المحدود وبالتحديد فئات الموظفين وبخاصة الذين ينتقلون من الأرياف إلى المدن ويقومون باستئجار المساكن وبأسعار مرتفعة تكون نتائجها على المدى البعيد ذات تأثير سلبي، حيث تترواح كلفة الاجرة الشهرية للمسكن ما بين ثلث ونصف الدخل لموظفي الفئات الوسطى، وعليه فان إمكانية التوفير لبناء بيت جديد صعبة المنال، إلا إذا توفرت المساكن في المدن الجديدة وبأسعار يستطيع أن يدفعها الموظف شهرياً بدلاً من الاجرة ليكون في نهاية المطاف المسكن ملكاً له.
الاعتبارات
أما الاعتبارات الأساسية التي يجب أن تُؤخذ في الحسبان فمنها ما يتعلق بالوضع الطبيعي كطوبغرافية الموضع وخصائص المناخ فهي عناصر تؤثر في النشاط البشري، فلا بد أن يكون العمران منسجما مع الواقع الطبيعي، كما يجب مراعاة نظام الحياة الاجتماعية المرتبطة بالعادات والتقاليد والابتعاد عن التصاميم المستوردة التي لا تنسجم مع خصوصية المجتمع الفلسطيني، كما يجب أن يراعى التجانس العمراني ما بين المخطط له وما يمكن أن يكون في المستقبل مع ضرورة سن القوانين التي من شأنها المحافظة على النسق العمراني وجمال المنظر العام والنظام البيئي حتى يغيب التلوث البصري إن أمكن ذلك.
وفي الختام يمكن القول ان لفكرة بناء المدن الجديدة فوائد كثيرة، منها ما يتعلق بسد النقص الموجود في السكن وبما يناسب فئات المجتمع المختلفة، مع العلم انه تتوفر في المدن الفلسطينية المساكن الشاغرة ولكنها لا تناسب دخل المحتاج لها، فالمقصود ليس النقص بالوحدة السكنية ذاتها بل النوعية والقيمة المادية وطريقة تسديد ثمنها.
فالأمل أن يجد المحتاجون للسكن ضالتهم في هذه المدن وان يجد القائمون عليها حاجتهم والتي بطبيعة الحال ستعود على عامة المجتمع بالفائدة، ليتحقق شيء من اهداف بنائها في فلسطين وهو الستر على ميسوري الحال، هذا إن لم تستعر المعركة بين الأغنياء لشراء اكبر عدد من هذه الشقق لاستثمارها بعد استثمار من بنوها، وأقول هذا مع عدم اضطلاعي الكامل على المعايير التي ستؤخذ عند بيع الوحدات السكنية، عل مسؤوليها يطلعونا على ما يسر، والسلام.
'© فيصل يوسف صبّاح طالب دكتوراة
تحية طيبة ,استاذ فيصل صباح احتاج الى توثيق لهذا المقال لادراجه في بحث لي هل من الممكن مساعدتي ؟