قبل عدة سنوات كتبت مقالاً في جريدة "؟" (وكان ذلك في صفحة العمران والتنمية) وأذكر ان المقال كان قبل دخول القرن الجديد وبعنوان "خط السماء في مدينة الرياض" وكان يتناول زاوية الناقد المعماري (لويس ممفودر) في جريدة (ذا نيووركر) في الثلاثينيات من القرن الماضي.
(1)
فكرة المقال كانت تركز على تحولات خط السماء في مدينة الرياض فتلك الفترة كانت بدايات برجي المملكة والفيصلية وتشكل مفهوم "منطقة الاعمال" بين طريقي الملك فهد والعليا. في ذلك الوقت كانت توقعاتي أن يكون التحول سريعا وكنت ارى ان الرياض سوف تتبنى نموذج "منهاتن" بحيث سيكون هناك جدار شمالي جنوبي من ناطحات السحاب يفصل الرياض إلى منطقة شرقية وأخرى غربية، إلا ان شيئا من هذا لم يحدث وبدأت تتشكل خلال السبع سنوات الأخيرة مجموعة من المباني الاقل ارتفاعا والأقل جاذبية وبقيت المنطقة التجارية التي يتطلع لها سكان الرياض غير منظمة وغير جذابة بما فيه الكفاية. على اننا لا بد أن نشير أنه ظهرت افكار لمشاريع متعددة في المنطقة مازالت حبرا على ورق ولم تتحول إلى مشاريع حقيقية. على أنه يبدو أن هناك رغبة ملحة كي يصبح هذا الجزء من الرياض مختلفا أو بهوية مختلفة، فخلال الاسبوع الفائت اطلقت الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض الارتفاع في "منطقة الاعمال" وهو الامر الذي قد يقلل من القيود البيروقراطية التي كانت تكبل المستثمرين، وهو ما يعني في نفس الوقت اننا سنشهد هوية جديدة لمدينة الرياض خلال العقد الثاني من الألفية الثانية، وهو ما يجعلنا ننتظر ونرى.
(2)
في حقيقة الأمر هذا لا يعني اننا نرغب ان يتحول خط السماء في الرياض وأن يتشكل جدار ناطحات السحاب هذا، فالحالة الآن وبوجود هذا العدد من المباني، تمثل المنطقة إشكالا مروريا كبيرا فالكل يعرف المعاناة اليومية على طريق العليا خصوصا في وقت ذروة استخدام الاسواق التجارية، والتي يجب ان تعالج بشفافية كاملة. فمسألة إطلاق الارتفاع قد يكون جذابا بالنسبة للبعض وقد يجعل اراضي منطقة الاعمال الأكثر قيمة في مدينة الرياض، لكن سيكون مصاحبا لهذه التحولات "تكاليف حياتية" باهظة سيكون لها تأثيرها السلبي على الحياة في المدينة. ورغم انني لم اطلع على قرار الارتفاعات الجديد بتفاصيله وشروطه، إلا انني على يقين أن احد الاشتراطات هو اجراء الدراسة المرورية لكل مشروع قبل الترخيص له وهذا أمر طبيعي على ان هذه الدراسات غالبا ما تركز على المنطقة المحيطة بالمشروع ولا تفكر ابدا في منابع الحركة المرورية فالمنطقة المستهدفة واحدة وطرق الوصول لها محدودة، رغم انني اعلم ان هناك تطويرا لوسائل النقل العام وبناء مسارات للقطارات الكهربائية التي سوف تخدم المنطقة، إلا ان العوامل الثقافية غالبا ما تجعلني اتردد على المستوى الشخصي في تقبل فكرة ان السعوديين سوف يستخدمون هذه الوسائل خصوصا على المستوى العائلي. ولا اريد هنا أن اقلل من قيمة مشاريع النقل هذه فالرياض مدينة عامرة ويسكنها عدد كبير من ثقافات وجنسيات متعددة لديهم الاستعداد لاستخدام وسائل النقل العامة إذا ما كانت مريحة ومناسبة، على ان المدن الحية يجب ان تضع في اعتبارها كل الإشكالات المستقبلية وتتعامل معها بأسلوب يجفف منابع ومصادر المشاكل لا العكس، ومدينة الرياض تحتاج إلى توعية ثقافية/مجتمعية حتى تصبح الحركة فيها مقبولة، فمازال عدد سكانها قليلا مقارنة بما هو متوقع لها بعد عدد من السنوات، فمع تضاعف عدد السكان لا نتوقع ان تقل جاذبية منطقة الأعمال ولا نتوقع أن تزداد المنافذ إليها.
(3)
تحول خط السماء ليس ظاهرة "رياضية" بحتة فكل المدن السعودية المهمة تحولت وبشكل سريع خلال الأعوام القليلة الماضية، فأنا مثلا متابع لما يحدث في مكة المكرمة واعتقد أن المشاريع الكبيرة هناك سوف تخنق الحرم وتجعله اصغر بكثير من البيئة المحيطة به بينما كان الحرم وعلى مر التاريخ هو المهيمن فراغيا وبصريا. هذا التحول له اسبابه الاقتصادية البحتة فنحن نعيش عصر "المشاريع العقارية العملاقة" التي جعلت من فكرة التطوير العقاري تتجاوز الحاجة الفعلية لتصبح بناء من اجل البناء، فعمارة الجشع والطمع اصبحت احد اهم عناصر التشكيل المديني المعاصر، حتى انه لم يعد هناك أي اكتراث لمسألة "الهوية" التي كنا نتغنى بها قبل عدة سنوات واصبحت الهوية الوحيدة هي "الكسب" و"الربح السريع". في مكة تبدو الظاهرة مخيفة كونها تعبث بمدينة لها مكانتها الخاصة، وتحول سماء مكة الطبيعي والذي كان تاريخيا "طبيعيا" ويصنع خط السماء حول الحرم حتى عندما غزت المباني الجبال نجدها قد اخذت نفس الخط الطبيعي، فقد كانت العمارة المكية ضمن "الإرث الطبيعي" لهذه المدينة المميزة. المشاريع الحالية لا تضع للإرث الطبيعي أي اعتبار وتتعامل مع الهوية البصرية المكية بشكل يجعل من الجبال وكأنها مجرد بداية الانطلاق للسماء. أعلم ان هناك زوارا وحجاجا يحتاجون خدمات وأعلم ان عددهم يزداد عاما بعد عام، لكن هذا لايعني ان تتحول مكة إلى غابة من ناطحات السحاب التي ستفقد منطقة الحرم احساسها الروحاني.
(4)
منذ أكثر من عقدين كنت في الحرم بالقرب من مقام ابراهيم وانظر للمنطقة المقابلة (جهة المسفلة وطريق ابراهيم الخليل) كانت الصورة جميلة ورائعة وقت الغروب في مثل هذا الوقت من السنة. وبعد فترة ظهرت بعض المشاريع التي حجبت الرؤية لكن مازال المنظر مثيرا للمشاعر ومحركا للنفس، واذكر انني زرت مكة للعمرة قبل ذهابي لدراسة الدكتوراه مباشرة وكتبت مقالا عن المناورة المكية البصرية، فالحرم يظل في النفس وتظهر منائره عن بعد وتختفي نتيجة للتكوين الطوبوغرافي ونتيجة للعمران المكي ثم يظهر الحرم كله مرة واحدة، مناورة بصرية رائعة لم تعد موجودة في الوقت الراهن وربما ستتلاشى معها كثير من الاشياء الجميلة في هذه المدينة المقدسة. لا اريد أن يعتقد القارئ انني "عاطفي" وارغب في الثبات واتوق للقديم، لكننا نرى المدن العظيمة تحافظ على هويتها ولا تقبل أن تمس تلك الهوية، ومع ذلك فهي لا ترفض التجديد والتحديث، هذه المعادلة الصعبة اعتقد أنه لايوجد حل لها.
(5)
تحولات خط السماء ينذر بظهور هويات جديدة غير التي كنا نعرفها عن المدن السعودية فأنا اعيش في مدينة الخبر وخلال العشرين سنة الماضية لم يكن هناك سوى مبنى (فلور) على طريق الخبر – الدمام السريع وكان مبنى زجاجيا مميزا يشعرني اني قد وصلت الخبر كلما لمحته عن بعد وخلال الخمس سنوات الاخيرة اختفى هذا المبنى ليس لأنه ازيل بل لأن العديد من المباني المتعددة الطوابق صارت تزحم خط السماء ولم يعد هناك متسعا لرؤية كل شيء. أصبحت الصورة مشوشة للغاية ولم يعد للمدينة ذلك الحضور الذهني الذي يجعلني اشعر بتلك المتعة التي كنت اشعر بها وانا ارى السماء صافية ومبنى (فلور) يقف وحيدا عند مدخل الخبر. البعض يرى انها سنة الحياة ان تتطور المدن والبعض الآخر يضحك عندما أتحدث بهذه اللغة العاطفية عن المدينة لكني كنت اقول لهم انني كنت ازور مدينة لندن خلال العشرين سنة الماضية بصفة دائمة ولم الاحظ أي تغيير. هل مدننا منتجة اكثر من هذه المدينة وهل التطور الوحيد هو ارتفاع المبنى وتحول الهوية البصرية أم ان هناك اشياء كثيرة يجب ان نفكر فيها اهم من "تجميل" المدينة بأبنية ليس لها تأثير مهم على اقتصادها. كما قلت قد يخالفني الكثير في هذا الرأي ولهم الحق في ذلك لكني مازلت ارى اننا بحاجة لكي نتريث في الكثير من القرارات العمرانية التي نتخذها لأنها تخرب مدننا وتجهدها اقتصاديا في نفس الوقت وتجبر من يديرها على الانشغال في حل المشاكل التي تحدثها هذه المباني بدلا من التفكير في التنمية الحقيقية.
(6)
هذا يحدث الآن في جدة والمدينة المنورة وابها وكل المدن السعودية التي ترى في نفسها القدرة على الدخول من بوابة "العولمة الزائفة"، انني ألوم وسائل الاعلام التي كرست صورة المباني المرتفعة على انها هي الصورة الأشد حداثة، كما كانت صورة حي الملز ومساكنه الخرسانية الأنيقة قبل نصف قرن. فالحداثة بحاجة إلى محرك إعلامي، والاعلام الواعي للأسف مغيب، إذ ان الصور السريعة للحداثة هي التي تفوز في النهاية ورغم كل ما يوجه لها من نقد لأنها تعبر عن المصلحة الفردية العابرة، لذلك هي اشد ارتباطا بالحياة اليومية من كل فكر آخر يحاول ان يبين مخاطر هذه الحداثة، لذلك فأنا اتوق ان نرى هوية جديدة لكل مدينة سعودية كبيرة خلال العقد القادم.
(7)
سوف أؤكد للقارئ العزيز انني من النوع القديم جدا فقد تعودت ان اسلك في مسارات اليومي داخل المدينة نفس الطرق واستخدم نفس "الخارطة الذهنية" وعندما اتفاجأ بتطوير جديد يخرب خارطتي الذهنية اشعر ببعض الارتباك، ويبدو لي انني من عشاق الثابت رغم ان حياتي عبارة عن سلسلة من التحولات. تثيرني المدينة التي تحافظ على ثبات في تحول مدروس وتمتعني الصور العتيقة خصوصا عندما يتبدل الناس فيها وتبقى لتؤكد ان المدينة ثلاثية الأبعاد من الناحية الزمنية وان المكان عندما يخلق في المدينة يجب ان يبقى إلا إذا دعت الظروف لتغييره. المدينة السعودية بتحولاتها الأخيرة لا تبهرني كثيرا ولا تجعل الحياة المدينية جذابة، فقد أصبحت هذه المدن ذات هويات متعددة مربكة إلى درجة أنها صارت تشكل ضغوطا نفسية دائمة لا اعلم لها حداً.
—————————————————————————————————-
د. مشاري بن عبد الله النعيم
جردية الرياض – السبت 27 صَفر 1428هـ – 17مارس 2007م – العدد 14145