منتدى دافوس .. يتحاور الكبار بحضور الصغار

 

في الشهر الأول من كل عام ميلادي يكون العالم على موعد مع حدث مهم وهو منتدى الاقتصاد الدولي الذي يعقد في منتجع دافوس وهي مدينة صغيرة مرمية في أحضان جبال سويسرا المكتسية بالثلوج ولكن هذه المدينة الصغيرة بحجمها تتحول بفعل هذا الملتقى إلى أثقل بقعة أو مكان في العالم, فمن وجهة نظر اقتصادية ومالية يحتضن هذا الملتقى أغنى رجال العالم وأكبر شركات الأرض مالا وتجارة, ومن وجهة نظر سياسية فإن قادة العالم يرون في هذا الملتقى فرصة لهم لأن يضعوا أمام العالم أجندتهم المستقبلية, ومن وجهة نظر ثقافية واجتماعية فإن منظمات المجتمع المدني في العالم تحاول أن تستثمر هذا اللقاء بين السياسة والاقتصاد وبين قادة الدول ومديري الشركات لكي تبلور أفكارا ومبادئ عامة تؤسس عليها ثقافة عالمية تهتم بمواضيع مثل البيئة والتعليم والفقر وغيرها من المواضيع التي قد لا يلتفت إليها رجال السياسة وأباطرة المال والاقتصاد. في هذا العام وصل عدد المشتركين في هذا الملتقى إلى نحو 2400 شخص, وكل شخص من هؤلاء جاء إلى المؤتمر وهو يحمل إما دولارا في جيبه, إذا كان من رجال المال والاقتصاد, وإما فكرة في عقله, إذا كان من العلماء والمفكرين وأساتذة الجامعات المتميزين, أو رؤية في ذهنه وهذا من اختصاص أهل السياسة ومراكز اتخاذ القرار في العالم. أكثر من الثلثين ممن حضروا الملتقى في هذا العام هم من الدول المتقدمة أو الدول التي هي في طريقها لأن تصبح دولا لها وزن اقتصادي وسياسي عالمي مثل الهند والصين والكثير من دول شرق آسيا التي تشهد معدلات نمو عالية, وإما الثلث المتبقي من الحضور في هذا الملتقى فلا هو الثلث الضامن كما تطلق على نفسها المعارضة في لبنان ولا هو الثلث المعطل كما ترد الحكومة اللبنانية على معارضيها, فالثلث المتبقي من الحضور هم خليط غير مؤثر من دول العالم الثالث ووجودهم في الملتقى هو جزء منه لإكمال الصورة باعتباره ملتقى عالميا وجزءا منه لغرض فرض أجندة الكبار من دول وشركات على هذه الدول لكي لا يكون هناك ما يعرقل خططهم ويعترض مسارهم. قد يعترض البعض منا على طرح مثل هذا الكلام وقد يصنفه البعض على أنه تكرار لثقافة دونية لأممها وشعوبها في مقابل الانبهار بالطرف المتقدم في العالم, فهذا الثلث يضم بينه دولا كثيرة فيها تجمعات سكانية كبيرة وعندها من الموارد الطبيعية والمواقع الجغرافية ما هو مهم جدا لاقتصاديات العالم وحركته التجارية, فكيف لا يكون هذا الثلث مهما وعنده مخزون العالم من الموارد الطبيعية والمواد الأولية الضرورية لصناعات العالم؟ هذا الكلام صحيح ولكن العالم باتت له مفاهيم جديدة وثقافة مغايرة وبالتالي فهو يتكلم عن حضارة جديدة قوامها العلم والمعرفة والإدارة الإنسانية والتنمية المستدامة التي باتت تنظر للبيئة والحفاظ عليها وعلى مكوناتها وتوازناتها على أنها الإطار الذي يرشد التنمية الاقتصادية, فدول العالم المتقدم باتت مشغولة إلى حد كبير بموضوع واحد وهو كيفية إعادة إنتاج نظامها التعليمي والثقافي والاجتماعي والصناعي لتخطو بمجتمعاتها إلى الهدف الأكبر وهو بناء مجتمعات معرفية لتنطلق منها الحضارة القادمة. فمثل هذه المؤتمرات التي في نظرنا هي مجرد تجمعات اقتصادية يتناول فيها المجتمعون القضايا والمشاكل التي يعاني منها الاقتصاد العالمي وهذه مقولة صحيحة ولكنها معالجة في إطار بلورة رؤية مشتركة لمستقبل العالم. فإذا كان الاقتصاد هو الإطار الذي يؤطر معظم نشاطات هذا الملتقى فإن الثقافة هي التي تتكفل برسم الصورة بتفاصيلها التي سيحويها هذا الإطار. من هذا المنطلق يجيء حرص الدول المشاركة في هذا الملتقى على أن يكون لها وجود فكري وثقافي وهذا ما يجب أن نلتفت إليه نحن شعوب العالم الثالث. فالحضور السياسي والاقتصادي وإن كان مطلوبا في مثل هذا المحفل الاقتصادي العالمي ولكن لمن نترك الحوار والمناقشات التي تزدحم بها أروقة المؤتمر عندما ينتهي السياسي من إلقاء خطابه ومغادرة مقر المؤتمر, فمشاركة نخبة من مفكرينا وأساتذة جامعاتنا في مثل هذه المنتديات هي صورة أخرى مكملة لانفتاحنا اقتصاديا على العالم. فشركاتنا الوطنية ومؤسساتنا الاقتصادية المحلية بحاجة إلى رفد فكري وتنظيري يعينها على تشكيل رؤيتها المستقبلية وهذا ما يجب أن نؤمن به على أنه من مسؤولية جامعاتنا ولكن بعد أن نثق بها ونهيئ لها كل مستلزمات القيام بهذا الدور. والدولة في العالم الثالث تواجه كما كبيرا من المشكلات والأزمات منها البطالة العالية وتدني الإنتاجية ورداءة الخدمات الأساسية والفوضى في إدارتها لمواردها المادية والبشرية وعدم الخروج من هذه المشكلات والأزمات هو تعطيل لقدرتها في المشاركة في صياغة المستقبل ويكون حضورها في مثل هذه المنتديات هو استسلام لمخططات الكبار التي ليس بالضرورة أن تأخذ مصالح هذه الدول النامية. فعندما تأتي دولة مثل باكستان وهي تخصص من أموالها للمجال العسكري عشرة أضعاف ما تخصصه من أموال لخدمة مواطنيها في مجال المياه والخدمات الصحية، فمن يا ترى سيسمع لهذه الدول عند الحديث عن المستقبل وهي لا تعرف كيف تعالج حاضرها ومشاكلها الآنية. فنحن بحاجة إلى جامعاتنا لتنتج لنا أفكارا جديدة نعيد على أساسها ترتيب أولوياتنا ولكن ستبقى جامعاتنا معطلة عن القيام بهذا الدور لأننا ما زلنا لا نعترف لها بدور فكري في بناء الدول والمجتمع.
أما الأمر الآخر الذي يجب أن نهتم به ونلتفت إليه في تعاملنا مع مثل هذه المنتديات فهو دور مؤسسات المجتمع المدني التي لا وجود لها في مجتمعاتنا. لم يكن بالإمكان أن يحظى موضوع حماية البيئة بهذا الاهتمام لولا الضغط الذي مارسته الجامعات ببحوثها ودراساتها والتجمعات المدنية المنتشرة في دول العالم المتقدم. فقد يقول قائل إن الانحباس الحراري وهي المشكلة والموضوع الرئيسي لمنتدى دافوس لهذه السنة هي مشكلة أنتجتها دول العالم المتقدم وهي تخصهم، ولكن هذه المشكلة التي هي مشكلتهم سنعاني نحن دول العالم الثالث تبعاتها أكثر وأشد منهم. فالأنماط المناخية الناجمة عن التغيير المناخي ستلحق بنا أضرارا كبيرة وبالتالي فنحن بحاجة إلى مشاركة مجتمعاتنا إلى جنب المجتمعات الأخرى لتشكل لوبي قوي وضاغط على الدول والشركات لتعديل ممارساتها وفي غياب دور مجتمعاتنا ستعقد صفقات لا تأخذ في الاعتبار حقوق شعوبنا ومجتمعاتنا. فمثلا في عقد الثمانينيات من القرن الماضي عقدت صفقة بين شركات التدخين في الولايات المتحدة الأمريكية مع السلطات الصحية تدفع بموجبها هذه الشركات المئات من المليارات من الدولارات دعما للقطاع الصحي وتعويضا للأضرار التي أحدثها التدخين عبر فترات طويلة على الصحة العامة على أن يسمح لها بتوسيع نشاطها ومبيعاتها في العالم الثالث لكي تزيد أرباحها وتفي بتسديد هذه الأموال الضخمة وهذا قد يتكرر في مجالات أخرى إذا لم يكن لشعوبنا مشاركة حقيقية في هموم العالم ومشاكله.
في الختام نقول من حق الكبار أن يتحاوروا ويتناقشوا ويرسموا طريقهم للمستقبل فهم من يملكون الأموال والأفكار وهم الذين استوعبوا الحاضر وانطلقوا ليشكلوا المستقبل، ولكن ما نريد قوله هو أن حضورنا معهم هو حجة علينا, فهم يؤكدون لنا أن الفكر والثقافة والإدارة هي المنطلقات أحداث تنمية حقيقية ونحن نصر على أن الثقافة هي كلام في كلام ولا دخل لها بعالم الاقتصاد. وعندما نسمع لكل من تحدث من سياسيين ورجال أعمال ومفكرين وحتى فنانين في هذا المؤتمر فإننا نجد أن ما يوحدهم هو دعوتهم لتطوير ثقافاتهم من أجل إنتاج أفكار جديدة يتجاوزوا بها حدود الممكن من مستويات النمو التي توقفت عندها الثقافة المعاصرة, فهذه فرصة لنا لنفهم سر جمودنا وتفاقم مشاكلنا وأزماتنا, فمن دون إنتاج أفكار جديدة سنبقى نعيش الجمود ونكتفي بالحضور في مثل هذه المنتديات لنسمع غيرنا يتكلم ويناقش ما استجد من الأفكار وبعدها نعود بخفي حنين, فمتى نجعل من حضورنا مشاركة ومن وجودنا مساهمة حقيقية وفعالة تعود بالنفع علينا وعلى مستقبلنا؟!
©

د. هاشم بن عبد الله الصالح  –  جامعة الملك فيصل ـ الدمام  صحيفة الاقتصادية الالكترونية – كُـتـّاب الاقتصادية – الجمعة, 15 محرم 1428 هـ الموافق 02/02/2007 م – – العدد 486

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *