60ألف مهندس ينتظرون الحوافز التشجيعية ..

د. عبدالعزيز العساف - وزير المالية

د. عبدالعزيز العساف – وزير المالية
    كان "المهندزون" بالزاء هم من الفئات التي عرفت في عصور قديمة .. لم تكن هناك كليات "للهندزة" أو الهندسة.. كان هؤلاء هم الذين يتولون الإشراف على بناء القصور وطرق التجارة.. كطرق الحج التي تخترق الجزيرة العربية في وقتنا الحالي، نرى آثار هذه المباني الجميلة الأقواس والتي تُطبق فيها أدق قواعد الهندزة كمثل "القوس" الذي نراه شامخاً في بعض المباني الأثرية يعتمد على نظرية حديثة في نظريات هندسة "هندزة" العمارة في وقتنا الحالي.

لعلكم تعجبتم من كلمة "المهندزون" بدلاً من "المهندسون"، فالأصل والأساس هي "الهندزة" والمهندزون كما وردت في معاجم اللغة وهي من الفارسي المعرَّب.. فلنرجع الكلمة إلى أصلها ونقول "مهندز"، "مهندزون" كما ينطقها العامَّة.. وكان "المهندزون" في السابق يرجعون غالباً إلى دراسة وكتب بل هي حرفة من ضمن الحرف، وهي خاصة فقط ب"البناء" والزخرفة ولم تكن علماً قائماً بذاته مثل العلوم الدينية واللغة العربية، والقضاء، والتعليم.. وغيرها .. ولكن بعد الثورة العلمية والصناعية في العالم المتقدِّم بدأت تنشأ علوم في الهندزة أو الهندسة (ما تفرق) فنشأت "الهندسة المدنية" و"الكهربائية" بعد ظهور الكهرباء والدوائر الكهربائية .. فهي مرتبطة بالمخترعات الحديثة.. والهندسة "الميكانيكية" والصناعية وهندسة الحاسب الآلي وغيرها من اختصاصات الهندسة.. ولم تدخل الهندسة في المملكة العربية السعودية إلا بعد الطفرة التي شهدتها المملكة خلال العشرين سنة الأخيرة.. وقد كان نظام الخدمة المدنية وبعض الوزارات سابقة لوجود المهندسين في بلادنا.. وربما كان هناك مهندسون سعوديون ولكنهم معدودون على الأصابع.. وعند وضع نظام الخدمة المدنية أدمج المهندسون مع سلم رواتب الموظفين العام والذي ليس هناك فيه فرق بين التخصصات المختلفة إلا في بعض النماذج.. وبعد النهضة والتطور الذي شهدته المملكة كان هناك بعض الفئات التي ساهمت في البناء والتطوير وكان من حقهم أن يكون لهم تقدير وتميز مثل المعلمين، القضاة، العسكريين، الأطباء.. وغيرهم، وهذه الفئات تعود كل فئة منها إلى وزارة معينة، فالأطباء يعودون لوزارة الصحة، والمعلمين لوزارة التربية والتعليم، والقضاء لوزارة العدل. أما المهندسون فإنهم يعودون لكل الوزارات تقريباً، فكل وزارة تتبعها إدارة للمشاريع أو إدارات هندسية.. وهناك الشركات الكبرى (القطاع الخاص) .. بل كل فرع لوزارة مهما كان صغيراً لا بد أن تتبعه إدارة فنية، وهناك بعض الوزارات التي هي وزارات فنية بطبيعة خدماتها كوزارة النقل، ووزارة الشؤون البلدية والقروية.. وجميع هؤلاء المهندسين في هذه الوزارات هم على نفس الفئة ونفس الوظائف..

وهنا سأقدِّم بعض الملاحظات والرؤى التي يجب أن نرى نقاشاً وجواباً حولها:

أولاً: حسب نظام الخدمة المدنية الحالي ليس هناك فرق بين تخصصات الهندسة المختلفة، فليس هناك فرق بين "المهندس المدني" و"المهندس الكهربائي" و"المهندس الميكانيكي".. بل جميعهم يخضعون لنفس النظام الذي يخضع له نظام الموظفين العام والترقيات والوظائف فيه خاضعة للمفاصلة والمسابقة الوظيفية التي تعتمد على سنوات الخدمة بغض النظر عن ماهية التخصص أو الإسهامات والإبداعات التي يقدمها المهندس، فالوظائف العادية تعتبر هي الدراسة بحد ذاتها فيمكن أن يبدأ أحد الموظفين وهو أمي لم يدرس ويتدرج بناء على خبرته المكتسبة من الوظيفة ويساوى بالمرتبة المتعلِّم.. وهذا ليس انتقاصاً منه فربما تكون قدراته وجهده أفضل ممن تعلَّم، ولكن لا بد من وجود اعتبار للجهد المبذول سواء في أداء الخدمة أو في الدراسة والتعليم.. فليس من المعقول أن يكون الجهد المبذول في وظيفة هندسية "عمرانية" على سبيل المثال موازيا لجهد وظيفة تحريرية كتابية..

ثانياً: ليس هناك جهة معينة تتبنى المطالبة بحقوق المهندسين المهضومة أو تدافع عنهم مما جعلهم مشتتين ومتفرقين في عدد من الجهات ولا رابط بينهم.. ولا شك أنني أحترم ما تقوم به الهيئة السعودية للمهندسين بمتابعة من أمينها العام المهندس صالح بن عبدالرحمن العمرو وما تقوم به حالياً من بحث للأوضاع المهنية للمهندسين ووضع برنامج لتطوير المهنة هو جهد مشكور ولكنه بحاجة إلى دعم من وزارة الخدمة المدنية لكي يتم تطوير هذا البحث إلى مشروع توصيات لكل من مجلس الشورى ووزارة الخدمة المدنية ووزارة المالية لوضع خطوات تنفيذية لبحث أوضاع المهندسين.

ثالثاً: أرى أن تقوم الهيئة السعودية للمهندسين بالقيام ببحث لأوضاع المهندسين الوظيفية حالياً وتصنيف أعمالهم التي يقومون بها ومقارنتها مع تخصصاتهم وخبراتهم ومحاولة وضع برنامج مع الوزارات لوضعهم في أماكنهم الصحيحة وأن يوزع هذا الاستبيان على جميع المهندسين ومحاولة سبر أغوارهم ومعرفة آمالهم وتطلعاتهم.. وأن تشترك الهيئة مع مجلس الشورى في تخصيص حلبة لمناقشة أوضاع المهندسين بحضور نخبة مختارة منهم لهذا الغرض.

رابعاً: أثبت استطلاع أو دراسة قام بها معهد الإدارة العامة أن 50% من المهندسين يعملون في مجالات غير مجالات تخصصهم ودراستهم – وهذا يعني تشرب نصف المهندسين من المجالات التي تعلموها.. ولا شك أن مثل هذا خسارة كبيرة للتنمية البشرية في بلادنا، فهناك حوالي 8كليات للهندسة أو العمارة والتخطيط.. منتشرة في جامعاتنا وهذه الكليات صرف عليها ملايين الريالات لإعداد

هؤلاء المهندسين وتعليمهم وتدريبهم وإذا تخرج هؤلاء المهندسون ووجدوا مجال العمل محبطاً لهم في المجال الحكومي وشبه تعجيزي في القطاع الخاص ووجدوا غير هذه المجالات أحسن حالاً وأقل جهداً منهم حتماً سيتوجهون إلى هذه المجالات كالتعليم مثلاً.. ولا شك أنه مهنة سامية جداً ولا يعني التوجه لها أنها أقل من مهنة الهندسة.. ولكن المهندس هو متخصص في الهندسة وليس في التعليم التربوي الذي هو من اختصاص المهندس جزئياً وليس كلياً.. إن تسرب 50% أو أكثر من المهندسين يعني أن ليس هناك علاقة بين التعليم والتوظيف وهذا التعليم الهندسي يذهب هدراً وهباءً منثوراً.. بل إن هناك أقساماً للهندسة كهندسة النفط بقي خريجوها بدون وظائف اطلاقاً ومنذ سنوات.

خامساً: لا شك أن للمهندسين علاقة وثيقة بالاقتصاد الوطني وتقدمه، فالمهندسون هم العماد الذي يعتمد عليه بعد الله في النهضة العمرانية والصناعية، وهذه المشاريع التي يصرف عليها آلاف الملايين من الريالات، لا شك أنهم يمكن الاقتصاد في الصرف عليها والصرف عليها بشكل يضمن عدم الغش والمغالاة فيها والهدر الذي يذهب عليها بسبب سوء التنفيذ أو زيادة المواد المصروفة لها عن طريق تطوير مهن الهندسة، وهذه المهنة لا يمكن تطويرها إلا بإيجاد حوافز مغرية للمهندسين للدخول في هذا المجال.. المهندس يشرف على مشاريع بملايين أو عشرات أو مئات الملايين من الريالات، ويمكن في حالة الإشراف الفني العلمي عليها توفير مئات الملايين من الريالات ل(الهندسة القيمية)، أفلا يستحق المهندسون نظرة إليهم بأقل بكثير مما يمكن توفيره في حالة وجودهم.. أليس هذا بحد ذاته مبرراً كافياً ومنطقياً لدراسة أوضاع المهندسين الوظيفية ومحاولة تطويرها وإيجاد حوافز تشجيعية لهم للدخول بقوة في هندسة الوطن..

ولنا أن نورد مقارنة بين طالبين تخرجا من الثانوية العامة واتجه أحدهم إلى كلية الهندسة والآخر إلى كلية أدبية، سنجد أن خريج الكلية الأدبية سيتخرج من كليته خلال 4سنوات بدراسة ممتعة للأدب ويقرأها وهو نائم أو مسافر ويتخرج من الكلية ويتسلم راتباً مغرياً.. أما زميله الذي دخل كلية الهندسة فقد بدأ بدراسة الكيمياء والفيزياء الرياضيات واللغة الإنجليزية ثم بدأ بالتخصص وبالبحوث العلمية ومشروع التخرج الذي هو أشبه برسالة ماجستير وتخرج في 6سنوات بعد أن بذل جهداً كبيراً.. وبالكاد تم توظيفه بعد سنة أو سنتين من تخرج واستلم راتب ( 5060ريالاً) ولم يتغيَّر هذا الراتب ولم يزد وهو راتب يعتبر من يستلمه فهو يعيش دون حد الكفاف..!! أما في عمله الوظيفي فهو يشرف ويستلم مشاريع بعشرات الملايين من الريالات ويوقِّع على مستخلصاتها..!!. وفي ساعات العمل يزيد عن زميله الآخر بأكثر من 3ساعات ويستمر دوامه إلى صلاة العصر وفي وقت غداء الناس وقيلولتهم وزملائه في القطاعات الأخرى..!!

(المساواة غير موجودة أبداً)

سادساً: هناك سلالم وظيفية (كادر) وضع لجميع فئات الموظفين في الدولة.. فهناك كادر المعلمين، وهناك كادر الأعضاء وهيئة التدريس، وهناك كادر الأطباء، وهناك كادر القضاة، وهناك كادر العسكريين… إلخ.. ما عدا فئة المهندسين، وهي التي لم يتم وضع كادر وظيفي يضمن الترقية الأتوماتيكية لهم.. هؤلاء كانوا ضحية الأجنبي الذي كانت البلاد تعتمد عليه حتى وقتنا الحالي.. وكذلك لأنهم كانوا عند وضع سلم راواتب الموظفين معدودين على الأصابع .. أما الآن فإن عددهم يبلغ أكثر من ( 60.000مهندس) بمختلف التخصصات.. وحتى نستفيد من هؤلاء الذين خسرت الجامعات الملايين من أجل تدريبهم وتعليمهم.. فلا بد من وضع حوافز تشجيعية لهم لخدمة بلدهم.

سابعاً: بوجود إشراف فني هندسي وطني على جميع مشاريع الدولة فإن هناك وفراً كبيراً سيتم توفيره من خلال الإشراف والمتابعة الدقيقة لهذه المشاريع.. وقد يقول البعض إن ذلك من خلال (الهندسة القيمية) التي تهتم بالتوفير.. ولكن الأمر أكبر من ذلك.. ولأضرب لكم مثالاً: لنفترض أن هناك طريقاً طوله 100كلم سيتم إنشاؤه بين مدينتين وتم تصميمه من قبل أحد الاستشاريين بحيث يتم وضع ميول له لمسافة الرؤية وبارتفاع 3أمتار عن سطح الأرض.. وبعد حساب تكاليفه وجدت 100مليون ريال.. وبعد إعادة تصميمه من قبل مهندس وطني بحيث يتم الاستغناء عن الارتفاعات غير المطلوبة وبحيث يتم جلب مواد الردم من نفس موقع الطريق، فستصل التكاليف إلى 70مليون ريال وبنفس جودة الطريق السابق..

ومن هنا فإن الإنفاق المالي لتحسين أوضاع المهندسين ووضع كادر وظيفي خاص بهم سيكون توفيراً لصندوق المال العام.. وهذا شيء ربما لا ينطبق على فئات الموظفين الأخرى وأراه بصورة منفردة مع المهندسين..

ثامناً: ما دام أن الانفاق المالي لتحسين أوضاع المهندسين هو وفر للميزانية العامة للدولة فما حُجَّة وزارة المالية في عدم دراسة الموضوع حتى الآن.. إنني أضع الكرة الآن في مرمى وزارة المالية قبل وزارة الخدمة المدنية، إنني أناشد وزير المالية الدكتور إبراهيم العسَّاف ان يتم تشكيل لجنة من كل وزارة الخدمة المدنية ووزارة المالية والهيئة السعودية للمهندسين وبمبادرة من وزارة الخدمة المدنية لدراسة أوضاع المهندسين الحالية وظيفياً وتدارك تشربهم من القطاعات الحكومية التي تؤسس البيئة الأساسية للمشاريع .. هذه اللجنة يجب أن تخرج بتوصيات تصب لصالح المهندسين.. ولصالح التوفير في الهدر المالي الذي يحصل في بعض المشاريع التي لا تخضع لإشراف فني دقيق.. وأكرر أن وضع كادر للمهندسين هو توفير للمال العام.

©  الخميس 13 رمضان 1427هـ – 5أكتوبر 2006م – العدد 13982  جريدة الرياض

د. عبدالعزيز العساف – وزير المالية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *