الموضوع الثاني للنقاش: وعد النمو الحضري تقرير الامم المتحدة عن حالة سكان العالم 2007

 ↓ ↓الرجاء التعليق على محتوى التقرير في خانة الملاحظات في اسفل المقال ↓ ↓ 

  • تزايد الجبل الجليدي
  • موجه التحضر الثانية: اختلاف في الحجم
  • مستقبل النمو الحضري: المعدلات والسرعة والحجم
  • مدن أصغر: تؤوي نصف سكان الحضر في العالم
  • سرعات مختلفة، سياسات مختلفة
  • إسناد السياسات إلى حقائق، لا إلى تحيزات

يعيش أديغوكي تيلور، وهو بائع متجول نحيف القوام وجاد يبلغ من العمر اثنين وثلاثين عاماً وذو عينان قلقتان، في غرفة واحدة مساحتها ثمانية أقدام في 10 أقدام مع ثلاثة شبان آخرين، في حارة في إيزالي إيكو على مسافة تبعد عدة مئات من الأقدام من جسر البر الرئيسي الثالث. وفي عام 1999، وفد تيلور إلى لاغوس من إيلي – أولوجي، وهي بلدة لقبائل اليوروبا على بُعد مائة وثلاثين ميلاً إلى الشمال الشرقي. وقد حصل على شهادة علمية في التعدين من مدرسة العلوم التطبيقية وكان لديه هدف ممارسة عمل مهني. ولدى وصوله إلى العاصمة، توجه إلى أحد الأندية التي تُعزف فيها موسيقى الجوجو – وهي موسيقي شعبية تشيع فيها إيقاعات قبائل اليوروبا – وظل هناك حتى الساعة الثانية صباحاً. وقد قال باللغة الانجليزية، وهي اللغة السائدة في لاغوس، "إن هذه التجربة بمفردها تجعلني أعتقد أنني أنعم الآن بحياة جديدة". "وأنت ترى في جميع الأوقات جموعاً من البشر في كل مكان. وكان ذلك حافزاً لي. ففي القرية، لا تكون حراً على الإطلاق وأياً كان ما ستفعله اليوم ستفعله غداً". وسرعان ما وجد تيلور أن ما من وظيفة من الوظائف القليلة في مجال التعدين التي يُعلن عنها في صحف لاغوس كانت متاحة له. وقال "إذا لم تكن لك صلات فإن العثور على وظيفة ليس سهلاً لأن عدد طلبات التوظيف أكبر كثيراً من عدد الوظائف. فعندما لا يكون لديك شخص معترف به يقول ’هذا الشاب أريده، أعطوه وظيفة‘ فإن الوضع يكون صعباً للغاية في هذا البلد إذا لم تكن تنتمي إلى الصفوة (elite) ـ وقد نطقها “e-light” ـ فستجد أن الأمور صعبة للغاية".

وقد مارس تيلور سلسلة من الأعمال المتباينة: تغيير العملة، وبيع القرطاسية وضفائر الشعر في الشوارع، ونقل حمولات ثقيلة في مستودع مقابل أجر يومي يبلغ أربعمائة "النيرات"، أي حوالي ثلاثة دولارات. وقد عمل في بعض الأحيان لحساب تجار من غرب أفريقيا جاءوا إلى الأسواق القريبة من الميناء واحتاجوا وسطاء من أجل العثور على السلع التي يريدونها. وقد أقام في البداية مع شقيقة صديق له من الطفولة في موشين، ثم وجد سكناً زهيد الثمن هناك في غرفة اشترك فيها مع آخرين مقابل دفع سبعة دولارات شهرياً، إلى أن حُرق المبنى أثناء أعمال الشغب العرقية. وقد فقد تيلور كل شيء. وقرر أن ينتقل إلى جزيرة لاغوس، حيث يدفع إيجاراً أعلى، يبلغ عشرين دولاراً في الشهر.

ولقد حاول تيلور أن يرحل من أفريقيا ولكن السفارتين الأمريكية والبريطانية رفضتا طلبه الحصول على تأشيرة. وكان يتوق في بعض الأوقات إلى هدوء بلدته، ولكن لم تكن مطروحة بالنسبة له على الإطلاق مسألة أن يعود إلى إيلي – أولوجي، بلياليها المبكرة وأيامها الرتيبة واحتمال أن يقضي عمره في مزاولة عمل يدوي. فقد كان مستقبله في لاغوس ….

وقال تيلور(1) "لا مهرب، سوى أن أفلح ".

تزايد الجبل الجليدي

"إن نمو المدن سيمثل أكبر تأثير منفرد على التنمية في القرن الحادي والعشرين". كانت هذه هي العبارة الاستهلالية في تقرير حالة سكان العالم الذي صدر عام 1996 عن صندوق الأمم المتحدة للسكان(2). وهذه العبارة تكتسب مزيداً من الدقة كل يوم.

فحتى الآن كانت البشرية تعيش وتعمل أساساً في المناطق الريفية. ولكن العالم يوشك أن يترك وراءه ماضيه الريفي: فبحلول سنة 2008، ولأول مرة، سيعيش أكثر من نصف سكان العالم، أي 3.3 بلايين شخص، في بلدات ومدن(3) .

وسيواصل عدد ونسبة سكان الحضر فى الارتفاع السريع. فسكان الحضر سيصبح عددهم 4.9 بلايين شخص بحلول سنة 2030. وبالمقارنة، من المتوقع أن ينقص عدد سكان الريف في العالم بحوالي 28 مليون خلال الفترة من عام 2005 إلى عام 2030. ومن ثم فإن النمو السكاني المستقبلي كله سيحدث، على الصعيد العالمي، في البلدات والمدن.

وسيكون معظم هذا النمو في البلدان النامية. فمن المتوقع أن يتضاعف عدد سكان الحضر في أفريقيا وآسيا خلال الفترة ما بين عام 2000 وعام 2030. وسيواصل أيضاً عدد سكان الحضر ارتفاعه، ولكن بدرجة أبطأ، في أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي. وفي الوقت نفسه، من المتوقع أن يزيد عدد سكان الحضر في العالم المتقدم زيادة طفيفة نسبياً: من 870 مليوناً إلى 1.01 بليون.

ولهذا التوسع الحضري الهائل في البلدان النامية انعكاسات عالمية. فالمدن أصبحت بالفعل محور جميع التحولات الاقتصادية والاجتماعية والديمغرافية والبيئية الكبرى. وما يحدث في مدن العالم الأقل تقدماً على مدى السنوات المقبلة سيحدد آفاق النمو الاقتصادي العالمي، والتخفيف من وطأة الفقر، واستقرار عدد السكان، والاستدامة البيئية، وممارسة حقوق الإنسان في نهاية المطاف.

ومع ذلك مما يبعث على الدهشة ضآلة ما يُنجز لتعظيم الفوائد المحتملة لهذا التحول أو للحد من عواقبه الضارة. ولقد أوصى بوضوح المؤتمر الدولي للسكان والتنمية بأن: "الحكومات ينبغي أن تعزز قدراتها على الاستجابة للضغوط الناشئة عن سرعة التحضر عن طريق إعادة النظر في وكالات وآليات الإدارة الحضرية وإعادة توجيهها حسب اللزوم، وضمان مشاركة جميع الفئات السكانية على نطاق واسع في التخطيط واتخاذ القرارات بشأن التنمية المحلية"(4).

ويحث هذا التقرير على إجراء تحليل بعيد النظر واتخاذ تدابير استباقية تحقيقاً لهذه الأهداف. فالزيادات المتوقعة في أعداد السكان كبيرة للغاية، وستحدث التغييرات بسرعة فائقة، بحيث لا تتيح للحكومات وللمخططين حتى مجرد أن تصدر عنهم ردود أفعال.

بعض التعاريف:

(أ) حضري. تعرَّف المستوطنات أو المحليات بأنها "حضرية" من قِبل الأجهزة الإحصائية الوطنية.

(ب) التحضر. عملية التحول من مجتمع ريفي إلى مجتمع أكثر تحضراً. وإحصائياً، يجسد التحضر تزايد نسبة السكان الذين يعيشون في مستوطنات معرَّفة بأنها حضرية، أساساً عن طريق الهجرة الصافية من الريف إلى الحضر. ومستوى التحضر هو النسبة المئوية لمجموع عدد السكان الذين يعيشون في بلدات ومدن بينما يمثل معدل التحضر المعدل الذي ينمو به عدد أولئك السكان.

(ج) النمو الحضري. الزيادة في عدد السكان الذين يعيشون في بلدات ومدن، مقيسة إما من حيث القيمة النسبية أو من حيث القيمة المطلقة.

(د) الزيادة الطبيعية. الفارق بين عدد المواليد وعدد الوفيات بين سكان ما.

(هـ) التحول الحضري. التحول من مجتمع يغلب عليه الطابع الريفي إلى مجتمع يغلب عليه الطابع الحضري.

ومن السمات البارزة في النمو السكاني الحضري في القرن الحادي والعشرين أنه سيكون مكوناً، إلى حد كبير، من أناس فقراء(5). وهؤلاء الفقراء كثيراً ما لا يشملهم التخطيط الحضري؛ ويواجه المهاجرون إلى الحضر رفضاً، أو يواجهون تجاهلاً بأمل ردع حدوث مزيد من الهجرة، وهو أمل لا طائل وراءه.

ويستدعي التخطيط الواقعي للنمو الحضري المستقبلي مراعاة صريحة لاحتياجات الفقراء. ويتطلب أيضاً تحليلاً للفوارق بين الجنسين: فكثيراً ما تكون الاحتياجات الخاصة للنساء والبنات وقدراتهن مغفلة ويُفترض أنها مثلها مثل احتياجات وقدرات الرجال والبنين. ومع تغير التركيبات السكانية، سيصبح إيلاء اهتمام للشباب ولاحتياجات المسنين أكثر أهمية من ذي قبل.

ويصف هذا الفصل بعض الاتجاهات الرئيسية في التحول الحضري، وبعض العقبات، وبعض الإمكانيات، وذلك كنقطة انطلاق لمناقشة نهج جديد.

ويقدم الإطار 1 بعض التعاريف. فتعريف المصطلحين الأساسيين "حضري" و "ريفي" تعريفاً عاماً كان على الدوام يمثل إشكالية(6). ومع تقدم العولمة يمكن أيضاً اعتبار تقسيم المستوطنات البشرية إلى مستوطنات "ريفية" و "حضرية" تقسيماً مصطنعاً بدرجة متزايدة. فتحسن وسائل الانتقال والاتصالات يُزيد القرب بين المدن والقرى والمناطق الزراعية. وتصبح المناطق الريفية أشبه بالبلدات، بينما يُحدث الطابع العشوائي تحولاً في مساكن المدن وخدماتها والقوى العاملة فيها، بل وحتى الإنتاج والاستهلاك. ولكن بالنظر إلى أن أساليب التفكير وجهود التخطيط والبيانات مازالت مجزأة فإن التمييز بين ما هو ريفي وما هو حضري مازال ضرورياً، وإن كان تمييزاً غير دقيق.

ولكل بلد من البلدان تعاريفها الخاصة بها، وتُغير سرعة النمو الحضري نفسه حدود المدن باستمرار. إلا أن أوجه القصور في هذه البيانات أقل أهمية عند تحليل الاتجاهات والآفاق العامة للنمو الحضري على صعيد العالم والصعيد الإقليمي، وهو ما يفعله هذا التقرير.

موجه التحضر الثانية: اختلاف في الحجم

تساعد مقارنة الاتجاهات المستقبلية بالاتجاهات الماضية على إبراز الاتجاهات الحالية للنمو الحضري. فحجم التغير الحالي غير مسبوق، وإن كانت معدلات النمو الحضري في معظم المناطق قد تباطأت. وتختلف أيضاً العوامل الاجتماعية – الاقتصادية والديمغرافية الكامنة وراء التحول الحضري في البلدان المتقدمة عنها في البلدان الأقل تقدماً، على النحو المشروح في الإطار 2.

الموجه الثانية(1)

إن الزيادات الضخمة التي حدثت في عدد سكان الحضر في البلدان الفقيرة تشكل جزءًا من "موجة ثانية" من عمليات التحول الديمغرافي والاقتصادي والحضري، وهي موجة أكبر وأسرع كثيراً من الموجة الأولى. وقد بدأت الموجة الأولى من عمليات التحول الحديثة في أوروبا وأمريكا الشمالية في أوائل القرن الثامن عشر. وعلى مدى قرنين (من عام 1750 إلى عام 1950)، شهدت هذه المناطق أول عملية تحول ديمغرافي، وهي أول تصنيع وأول موجة تحضر. وقد أدى ذلك إلى وجود المجتمعات الصناعية الحضرية الجديدة التي تطغى الآن على العالم. ولقد كانت هذه العملية تدريجية نسبياً وشملت بضعة مئات الملايين من البشر.

وفي نصف القرن الماضي بدأت المناطق الأقل تقدماً تشهد نفس هذا التحول. فقد انخفضت معدلات الوفيات انخفاضاً سريعاً وهائلاً في معظم المناطق، بحيث تحقق في عقد واحد أو عقدين ما حققته البلدان المتقدمة في قرن أو قرنين، وكانت التأثيرات الديمغرافية لهذه التغيرات في معدلات الوفيات أكبر بدرجة هائلة. وتتبعها الانخفاضات في معدلات الخصوبة، بسرعة إلى حد ما في شرق وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وبدرجة أبطأ في أفريقيا.

وفي كلتا الموجتين كان النمو السكاني مقترناً بتغيرات اقتصادية لاستحثاث التحول الحضري. ولكن، مرة أخرى، نجد أن سرعة وحجم التحضر الآن أكبر بكثير مما كان في الماضي. وهذا ينطوي على طائفة من المشاكل الجديدة للمدن في البلدان الفقيرة. فهذه البلدان ستحتاج إلى إقامة بنية تحتية حضرية جديدة – مساكن، وكهرباء، والماء، وصرف صحي، وطرق، ومرافق تجارية وإنتاجية – أسرع مما كان لزاماً على المدن في أي مكان أثناء موجة التحضر الأولى.

ويبرز وضعان إضافيان الموجة الثانية. ففي الماضي كانت الهجرة إلى الخارج تخفف الضغط على المدن الأوروبية. وقد استقر كثيرون من أولئك المهاجرين، خصوصاً من هاجروا إلى الأمريكتين، في أراض زراعية جديدة أطعمت المدن الجديدة. والقيود الموجودة الآن على الهجرة الدولية تجعل تلك الهجرة عاملاً ثانوياً في تحضر العالم.

وأخيراً، تزيد سرعة وحجم الموجة الثانية بفعل التحسينات في التكنولوجيا الطبية وتكنولوجيا الصحة العامة، وهي تحسينات تؤدي إلى سرعة خفض معدلات الوفيات وتمكن الناس من التحكم في خصوبتهم. ويمثل استحداث وتكييف أشكال للتنظيم السياسي والاجتماعي والاقتصادي لتلبية احتياجات العالم الحضري الجديد تحدياً أكبر بكثير. .

ولقد حدثت موجة التحضر الأولى في أمريكا الشمالية وأوروبا على مدى قرنين، من عام 1750 إلى عام 1950: وهي زيادة من 10 إلى 52 في المائة في عدد سكان الحضر ومن 15 إلى 423 مليوناً في عدد المتحضرين. أما في موجة التحضر الثانية، التي تحدث في المناطق الأقل تقدماً، فإن عدد المتحضرين سيرتفع من 309 ملايين في عام 1950 إلى 3.9 بلايين في عام 2030. وعلى مدى تلك السنوات الثمانين سترتفع نسبة سكان الحضر في تلك البلدان من 18 في المائة إلى حوالي 56 في المائة.

وفي بداية القرن العشرين كان عدد سكان الحضر في المناطق المتقدمة حالياً يتجاوز ضعف عدد سكان الحضر في المناطق الأقل تقدماً (150 مليوناً مقابل 70 مليوناً). وعلى الرغم من أن مستويات التحضر لدى البلدان النامية أقل كثيراً فإن عدد سكان الحضر لديها الآن أكبر 2.6 مرة عن عدد سكان الحضر في المناطق المتقدمة (2.3 بليون مقابل 0.9 بليون). وستتسع هذه الفجوة بسرعة خلال العقود القليلة المقبلة.

وعلى الصعيد العالمي شهد القرن العشرون زيادة في عدد المتحضرين من 220 مليوناً في عام 1900 إلى 2.84 بليون في عام 2000 (7) . وسيشهد القرن الحالي زيادة مطلقة مماثلة في حوالي أربعة عقود. وستمثل المناطق النامية بوجه عام 93 في المائة من هذا النمو، بحيث ستمثل آسيا وأفريقيا أكثر من 80 في المائة من تلك النسبة.

وخلال الفترة من عام 2000 إلى عام 2030 سيزيد عدد سكان الحضر في آسيا من 1.36 بليون إلى 2.64 بليون، بينما سيزيد عدد سكان الحضر في أفريقيا من 294 مليوناً إلى 742 مليوناً، وسيزيد عدد سكان الحضر في أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي من 394 مليوناً إلى 609 ملايين. ونتيجة لهذه التحولات، سيصبح لدى البلدان النامية 80 في المائة من سكان الحضر في العالم في عام 2030. ووقتئذ، سيصبح في أفريقيا وآسيا ما يقرب من سبعة بين كل عشرة من سكان الحضر في العالم.

وتأثير العولمة على أنماط نمو المدن يمثل فارقاً هاماً بين عمليات التحول الماضية والحالية(8) . فالمدن هي المستفيدة الرئيسية من العولمة، أي من الاندماج التدريجي لاقتصادات العالم. فالناس يتجهون حيث توجد فرص العمل، وهذه الفرص توجد حيث يوجد الاستثمار والأنشطة الاقتصادية. ويتركز معظم الناس بدرجة متزايدة في المناطق الحضرية المفعمة بالحيوية وفيما حولها، سواء كانت كبيرة أو صغيرة.

إلا أن قلة قليلة من مدن البلدان النامية هي التي تولِّد ما يكفي من فرص العمل لتلبية احتياجات سكانها الذين تتزايد أعدادهم. وعلاوة على ذلك، لا يتمتع بثمار التحضر جميع قطاعات السكان على قدم المساواة، فالذين لا يتمتعون بتلك الثمار هم أولئك الذين يواجهون تقليدياً استبعاداً اجتماعياً واقتصادياً، ومن بينهم النساء والأقليات العرقية، مثلاً. وعلى النحو الموصوف في الفصل 2، تعتبر الزيادة الهائلة في أعداد المتحضرين، مقرونة باستمرار نقص التنمية وقلة فرص العمل الحضرية، مسؤولة عن أوضاع يمكن أن تفوق التردي الذي وصفه ديكينز في ظل الثورة الصناعية. ومع ذلك، فإن المهاجرين من الريف إلى الحضر، من أمثال أديغوكي تيلور في القصة المعروضة في بداية هذا الفصل، يفضلون عموماً هذه الحياة الجديدة على الحياة التي تركوها وراءهم.

مستقبل النمو الحضري: المعدلات والسرعة والحجم(9)

على مدى السنوات الثلاثين الماضية استحوذ نمطان على اهتمام الجمهور العام واهتمام وسائط الإعلام، هما: سرعة النمو الحضري في المناطق الأقل تقدماً ونمو المدن الضخمة (أي تلك التي يبلغ عدد سكان كل منها 10 ملايين أو يتجاوز ذلك). والتركيز على هذين النمطين يمكن أن يكون مضللاً الآن.

فأولاً، لم تعد سرعة معدلات نمو المدن هي المشكلة حقاً بل المشكلة هي الحجم المطلق للزيادات السكانية، خصوصاً في آسيا وأفريقيا. فمعدل النمو الحضري على وجه الإجمال قد انخفض باستمرار، في حقيقة الأمر، في معظم مناطق العالم (الشكل 1).


الشكل 1 – متوسط المعدل السنوي للتغير في أعداد سكان الحضر حسب المنطقة، 1950 – 1980

المصدر: الأمم المتحدة. 2006. آفاق التحضر في العالم: تنقيح عام 2005، الجدول ألف – 6. نيويورك: شعبة السكان، إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، الأمم المتحدة.


ثانياً، مازالت المدن الضخمة هي الغالبة، ولكن نموها لم يبلغ الحجم الذي كان متوقعاً يوماً ما. فالمدن الضخمة الموجودة حالياً يعيش فيها 4 في المائة من سكان العالم و 9 في المائة من جميع سكان الحضر. وهذا يشكل شريحة هامة من العالم الحضري، ولكن من المحتمل أنها شريحة لن تتوسع بسرعة في المستقبل المنظور، كما هو مبين في الشكل 2. فكثرة من أكبر مدن العالم – وهي بوينس آيرس، وكلكتا، ومكسيكو، وساو باولو، وسول – يرحل منها فعلاً عدد من الناس يتجاوز عدد من ينتقلون إليها، وقلة من تلك المدن تقترب من الحجم الذي تنبأ به المتشائمون لها في سبعينات القرن العشرين(10).

ومازالت بعض المدن الكبيرة تنمو بمعدل سريع، ولكن هذا ليس بالضرورة أمراً سيئاً. ففي اقتصاد متعولم، وفي مناطق من قبيل شرق آسيا، قد يكون النمو السريع علامة على النجاح لا سبباً للتخوف(11). ومن المؤكد أن بعض المدن الضخمة المرتبطة بالفقر قد حدث فيها نمو شديد السرعة على مدى السنوات الثلاثين الماضية. ولكن هذه المدن يتزايد اعتبارها استثناءات.

ومن بين المدن الضخمة العشرين الموجودة الآن لم يحدث نمو بمعدلات تجاوزت باستمرار 3 في المائة سنوياً على مدى السنوات الثلاثين الماضية إلا في ست منها فقط. أما المدن الأخرى فقد شهدت نمواً معتدلاً أو منخفضاً بصفة رئيسية. وعلى مدى السنوات العشر المقبلة من المتوقع أن تنمو مدينتا دكا ولاغوس فقط بمعدل يتجاوز 3 في المائة سنوياً. وستنمو ست مدن بمعدلات تقل عن 1 في المائة(12).

مدن أصغر: تؤوي نصف سكان الحضر في العالم

على الرغم من أن المدن الأصغر لا تتناولها الأنباء كثيراً(13)، فإن 52 في المائة من سكان الحضر في العالم سيستمر عيشهم في مستوطنات يقل عدد سكان كل منها عن 000 500 نسمة. وكما يبين الشكل 2، كانت المدن الأصغر يقطنها دائماً أكثر من نصف مجموع عدد سكان الحضر خلال العقود الأخيرة. وعلاوة على ذلك، من المتوقع أن يحدث حوالي نصف النمو في عدد سكان الحضر في تلك المدن خلال الفترة من عام 2005 إلى عام 2015. ويوضح هذا الرسم البياني أيضاً أن حصة المدن الأكبر من المساحة الحضرية ستزيد ببطء بمرور الوقت، ولكن في المستقبل المنظور ستكون المدن الأصغر هي المهيمنة.


الشكل 2 – سكان الحضر، حسب حجم الاستيطان، في العالم، 1950 – 2030

المصدر: الأمم المتحدة. 2006. آفاق التحضر في العالم: تنقيح عام 2005، الجدول ألف – 17. نيويورك: شعبة السكان، إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، الأمم المتحدة.


وينطوي الدور المستمر للمدن الأصغر في استيعاب النمو السكاني الحضري على سلوان وقلق على حد سواء. وحالة غابوروني، المعروضة في الإطار 3، تجسد كلا الجانبين. فالجانب الإيجابي هو أن اتخاذ التدابير الضرورية أيسر، من حيث المبدأ، في المدن الأصغر. فتلك المدن، على سبيل المثال، تكون لديها عادة مرونة أكبر فيما يتعلق بتوسع الأراضي فيها، مما يجذب الاستثمار وعمليات صنع القرار.

أما الجانب السلبي فهو أن المدن الصغيرة يكون لديها عموماً قدر أكبر من المشاكل غير المعالجة وقدر أقل من الموارد البشرية والمالية والتقنية. فالمدن الصغيرة – لاسيما تلك التي يقل عدد سكان كل منها عـن 000 100 – تعاني بدرجة ملحوظة من نقص في خدمات الإسكان والنقل والمياه الجارية والتخلص من النفايات وغيرها من الخدمات. وفي حالات كثيرة لا يكون فقراء الحضر أفضل حالاً من فقراء الريف. والوضع خطير على وجه الخصوص فيما يتعلق بالنساء، اللائي يتحملن عبئاً غير متناسب بخصوص تلبية احتياجات الأسر المعيشية من حيث المياه والصرف الصحي والوقود والتصرف في النفايات(14).

التخطيط لفقراء الحضر في بلدة منتعشة (1)

يصور غابوروني، عاصمة بوتسوانا، الكثير من التحديات التي تواجهها البلدات الصغيرة التي تنمو بسرعة. فمنذ عام 1971 قفز عدد سكان المدينة من 700 17 إلى أكثر من 000 186، ومــن المتوقع أن يبلغ 000 500 بحلول سنة 2020. وفي خلال تلك العملية تتحول غابوروني من موقع إداري مُهمل إلى مركز مالي وصناعي وإداري وتعليمي ومنتعش.

وغابوروني محظوظة بالمقارنة بمدن صغيرة أخرى كثيرة، لأن الإيرادات من مناجم الماس في البلد قد خففت من متاعب نموها. ومع ذلك فهي تواجه توسعاً منخفض الكثافة؛ وارتفاعاً في معدلات البطالة؛ ومعدلاً للفقر نسبته 47 في المائة؛ واتساعاً في نطاق القطاع غير المنظم؛ وارتفاعاً في معدلات انتشار فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز؛ وفصلاً في السكن؛ وعدم كفاية البنية التحتية، فضلاً عن عدم ملاءمة إمدادات المياه والصرف الصحي.

ولقد وضعت المدينة في تاريخها القصير، عدة خطط رئيسية، سرعان ما أصبحت كل منها عتيقة. وقد وفرت المدينة، من أجل تنظيم استيطان سكانها الذين تتزايد أعدادهم بسرعة، قطعاً من الأراضي، مجاناً في البداية، ثم بتكلفة إسمية بعد ذلك. واليوم، تملك الدولة قطع الأراضي التي تقدم لها خدمات كاملة، وتفرض الدولة إيجارات عليها، ولكن المساكن نفسها يملكها أصحاب حيازات تلك القطع لمدة 99 عاماً. ومنعاً للمضاربة على قطع الأراضي، لا يُسمح لحائزي تلك القطع بأن يبيعوا منازلهم لمدة عشر سنوات.

كان هذا النهج مراعياً للفقراء ولذوي الدخل المتوسط، ولكنه لم يكن مراعياً لمن هم فقراء فقراً شديداً ، الذين ينتهي بهم الأمر بالعيش في مستقطنات غير رسمية لا يكون فيها الإسكان مخططاً، ومن الصعب الوصول إليها، وغير موصولة بخدمات المياه والمجاري. وكثيراً ما تمتلئ القنوات المكشوفة المخصصة لتصريف مياه العواصف بالوحل أو الرمل أو القمامة، مما يؤدي إلى تكرار حدوث فيضانات وانتشار الأمراض.

واحتمال إيواء نصف مليون نسمة بحلول سنة 2020 يجعل المشاكل الموجودة حالياً تبدو شبيهة بقمة جبل جليد. فمؤسسو المدينة يتحدثون عن إقامة مدينة قابلة للاستدامة، ولكن هذا الحلم تهدده أبعاد النمو الوشيك، وكذلك الافتقار إلى مخططين مدربين، ومعلومات حيوية، واستراتيجية واقعية طويلة الأجل.

ويستدعي تحقيق رؤية غابوروني وهي أكثر اتساعاً وأقدر على الاستدامة بكثير أن يطبق واضعو السياسات الدروس المستفادة من تجربة المدينة ومن التجارب في أماكن أخرى. ويستدعي مشاركة فعالة من جانب فقراء الحضر – وهم الفئة الاجتماعية الأكثر تأثراً بعملية التحول – والتزاماً راسخاً من جانب واضعي السياسات على الصعيدين الوطني والمحلي باتخاذ قرارات استراتيجية الآن استعداداً للنمو الحتمي.

وقد تستفيد المدن الصغيرة من الاتجاه العالمي النطاق صوب اللامركزية السياسية والإدارية، وهو اتجاه تُسند في إطاره الحكومات الوطنية بعض صلاحياتها وسطلتها المتعلقة بتحصيل إيرادات إلى أجهزة الحكم المحلي. وهذا يتيح، نظرياً، فرصاً جديدة لكل جهاز من أجهزة الحكم المحلي لإبداء مزاياه الفريدة، وجذب الاستثمار والنشاط الاقتصادي(15). وقد تشجع العولمة، التي تحدد بدرجة متزايدة المكان الذي سيحدث فيه النمو الاقتصادي، هذه العملية وذلك لوجود حاجة أقل إلى تركيز أنشطة اقتصادية معينة(16).

إلا أن كثرة من المدن الصغيرة لا تستطيع حتى الآن أن تستفيد من الحكم اللامركزي؛ ولكن مع تحسن الحوكمة ووجود معلومات أفضل وزيادة فعالية استخدام الموارد، بالاقتران مع المرونة المتأصلة التي تتسم بها المدن الصغيرة، يمكن أن تؤدى اللامركزية إلى تحسين قدرة السلطات المحلية على الاستجابة لتحدي النمو الحضري. ويتيح الصعيد المحلي أيضاً فرصة أكبر لمشاركة المرأة مشاركة فعالة في عملية صنع القرار. وهذا يمكن أن يحسِّن المساءلة وتقديم الخدمات الأساسية(17).

سرعات مختلفة، سياسات مختلفة

يتباين توقيت وإيقاع التحضر تبايناً كبيراً فيما بين المناطق الأقل تقدماً (انظر الشكل 3). فالاتجاهات العالمية تخفي تباينات محلية واسعة حسب البلد وحسب المدينة. وهذا التقرير يعلق فحسب على بضع سمات بارزة.

وتكشف دراسات أجريت في مناطق وبلدان مختلفة أن واضعي السياسات كانوا ينفرون عادة من قبول النمو الحضري وأن كثيرين منهم حاولوا أن يتجنبوه بالحد من الهجرة من الريف إلى الحضر.


الشكل 3 – النسبة المئوية للسكان في منتصف العام الذين يقيمون في مناطق حضرية، حسب المنطقة، 1950 – 2030

إنقر هنا لتكبير الرسم

المصدر: الأمم المتحدة. 2006. آفاق التحضر في العالم: تنقيح عام 2005، الجدول ألف – 17. نيويورك: شعبة السكان، إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، الأمم المتحدة.


لقد شهدت أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي تحولاً سريعاً وسابقاً لأوانه بالمقارنة بالمناطق الأخرى الأقل تقدما(18). ففي عام 2005 صُنفت نسبة قدرها 77 في المائة من سكان المنطقة بأنها حضرية، وكانت النسبة المئوية لسكانها الذين يعيشون في مدن يتجاوز عدد سكان كل منها 000 20 نسمة تفوق نظيرتها في أوروبا. وحدث التحول الحضري في أمريكا اللاتينية على الرغم من وجود سياسات صريحة مناهضة للتحضر. وكان التحول الحضري، على وجه الإجمال، إيجابياً من حيث التنمية. وكان من شأن اتخاذ موقف استباقي إزاء النمو الحضري الحتمي أن يقلل إلى أدنى حد من الكثير من عواقبه السلبية، خصوصاً تكوُّن أحياء عشوائية فقيرة وعدم توافر خدمات حضرية من أجل الفقراء.

أما منطقة الدول العربية في غربي آسيا فإن معدلات التحضر فيها تتراوح من معدلات شديدة الارتفاع إلى معدلات منخفضة، مع كون معظمها في مرحلة وسيطة(19). وتسيطر المراكز الحضرية على اقتصادات معظم هذه البلدان، ومازالت الهجرة من الريف إلى الحضر قوية في العديد منها. وهذا الوضع، المقرون بالزيادة الطبيعية (أي زيادة عدد المواليد عن عدد الوفيات)، تنشأ عنه بعض معدلات النمو الحضري العالية. والسياسات الحكومية تكون عادة معادية للهجرة إلى الحضر، مما يساعد على الحد من توافر إسكان من أجل فقراء الحضر، الذين كثيراً ما يجدون أنفسهم يعيشون في مستوطنات غير رسمية(20). وكما يحدث في أماكن أخرى، يؤدي عدم التخطيط مسبقاً للنمو الحضري إلى زيادة الكثافة وتكوُّن عشوائيات فقيرة في تلك الأحياء.

ومما لا شك فيه أن آسيا وأفريقيا هما الأكثر بروزاً في هذا الصدد، وذلك بسبب كثرة عدد سكانهما واحتمالات حدوث نمو حضري ضخم فيهما. ففي عام 2005، كان معدل التحضر في آسيا 40 في المائة، وفي أفريقيا كان المعدل يبلغ 38 في المائة. وعلى الرغم من المعارضة السياسية للتحضر في كثير من البلدان، من المتوقع أن تظل معدلات النمو الحضري مرتفعة نسبياً على مدى السنوات الخمس والعشرين المقبلة، مع حدوث زيادات ملحوظة في عدد سكان الحضر في كلتا القارتين وفي العالم.

وعلى الرغم من أن منطقة أفريقيا جنوب الصحراء هي أقل مناطق العالم تحضراً، فإن عدد سكان الحضر فيها يضاهي بالفعل عدد سكان الحضر في أمريكا الشمالية(21). ولقد انخفضت مؤخراً وتيرة النمو الحضري، مما يجسد تباطؤ النمو الاقتصادي ومعدلات الزيادة الطبيعية في عدد السكان، وكذلك قدراً من الهجرة العائدة إلى الريف. ومع ذلك، من المتوقع أن يستمر في المنطقة أعلى معدل للنمو الحضري في العالم عقوداً عديدة، مع مساهمة معدلات الزيادة الطبيعية في هذا الصدد مساهمة هامة.

وبعض سمات الهجرة من الريف إلى الحضر والتحضر في أفريقيا جنوب الصحراء فريدة، ومنها مثلاً غلبة المدن الصغيرة، وانخفاض الكثافة السكانية، وارتفاع انتشار الهجرة الدائرية أو المتكررة، والارتباط بفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز. وفي بعض أجزاء المنطقة، يتمثل التأثير الأساسي على التحضر في انتقال الناس من أماكنهم بفعل الجفاف والمجاعة والصراعات العرقية والحرب الأهلية والحروب بوجه عام. وفي السنوات الأخيرة فقدت مدن كثيرة مزاياها الصحية والاجتماعية التقليدية بالمقارنة بنظيراتها الريفية. وأصبح فقر الحياة الحضرية أحد أوضح التحديات التي تواجه المنطقة.

وعلى الرغم من هذه السمات فقد كان لقدر كبير من الهجرة إلى المناطق الحضرية تأثير إيجابي على كل من الاقتصاد والمهاجرين أنفسهم(22). فكثيرون من المهاجرين يكونون فقراء نسبياً، وبخاصة عند وصولهم إلى الحضر، إلا أنهم يعبِّرون عموماً عن تفضيلهم للمدينة على الحياة الريفية التي تركوها وراءهم.

ومع ذلك يبدو أن واضعي السياسات في المنطقة يعارضون بدرجة متزايدة النمو الحضري. فالناس الذين يعيشون في ظل فقر ريفي أقل تركيزاً، وأقل وضوحاً للعيان، وأقل تقلباً. وهم يفتقرون إلى إمكانية التعبئة الجماعية ووجود مطالب سياسية عاجلة لديهم مثل فقراء الحضر. إلا أن التحضر والهجرة الحضرية في أفريقيا من المحتمل أنهما يعودان بالفائدة على كل من فرادى المهاجرين والاقتصادات الوطنية. فعلى الرغم من ظروف حياة فقراء الحضر، فإن قرارات المهاجرين تعتبر قرارات رشيدة إلى حد كبير في ضوء مواردهم والمعوقات التي يواجهونها والفرص المتاحة لهم.

وتضم منطقة آسيا والمحيط الهادئ الشاسعة المتغايرة الخواص بعض أكبر وأغنى الاقتصادات، وكذلك بعض أصغرها وأفقرها. فهي تؤوي ثلاثة أخماس سكان العالم، ونصف سكانه من الحضر، و 11 من أكبر مدن العالم العشرين. وقد زاد عدد سكان الحضر في منطقة آسيا والمحيط الهادئ بمقدار خمسة أمثال منذ عام 1950، ومع ذلك فإن مستويات التحضر فيها منخفضة في جميع بلدانها باستثناء قلة قليلة.

وتضم الصين والهند معاً 37 في المائة من مجموع سكان العالم؛ ومن ثم فإن نهجهما فيما يتعلق بالنمو الحضري حاسم الأهمية على وجه الخصوص بالنسبة لمستقبل البشرية.

ومازال يوجد في مناطق الهند الحضرية أقل من 30 في المائة من مجموع السكان(23). ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 40.7 في المائة بحلول سنة 2030. وهذا المستوى المنخفض نسبياً يعزى جزئياً إلى تعريف صارم لمصطلح "حضري" في الهند (فهذا التعريف، مثلاً، يستبعد المناطق المحيطة بالحضر). وحتى مع وجود تعريف من هذا القبيل، من المتوقع أن يبلغ عدد المتحضرين حوالي 590 مليوناً في عام 2030.

ويأمل واضعو السياسات الهنود أن يؤخروا بدرجة أكبر النمو الحضري بتنفيذ النظام الوطني للعمالة الريفية الذي سُن في عام 2005. وتتولى الحكومة، عن طريق ذلك النظام، المسؤولية عن توفير ضماناً قانونياً لعمالة كل أسرة معيشية ريفية لديها فرد بالغ ويرغب في ممارسة عمل يدوي لا يحتاج إلى مهارة لمدة 100 يوم في كل سنة مالية(24). وسنرى تأثير ذلك على الهجرة من الريف إلى الحضر.

والزيادة الطبيعية هي العامل الرئيسي في النمو الحضري في الهند. ولا تزيد فرص العمالة في القطاع الرسمي، ويعمل قدر كبير من القوى العاملة الحضرية في القطاع غير الرسمي، ولكن هذا لا يمنع المهاجرين من القدوم إلى الحضر بحثاً عن المزايا غير الملموسة والفرص والمرافق في المدن الكبيرة. ولكن الفقر في البلدات الصغيرة كان دائماً أعلى مما هو في المدن التي يبلغ عدد سكانها مليوناً أو أكثر وفي البلدات المتوسطة الحجم؛ وقد انخفض أيضاً الفقر الحضري خلال الفترة ما بين 1987 – 1988 و1993 – 1994 في المدن التي يبلغ عدد سكانها مليوناً أو أكثر انخفاضاً أكبر مما حدث في المدن المتوسطة والبلدات الصغيرة.


كان لقدر كبير من الهجرة إلى المناطق الحضرية تأثير إيجابي على كل من الاقتصاد والمهاجرين أنفسهم. فكثيرون من المهاجرين يكونون فقراء نسبياً، وبخاصة عند وصولهم إلى الحضر، إلا أنهم يعبِّرون عموماً عن تفضيلهم للمدينة على الحياة الريفية التي تركوها وراءهم.


ومثلما حدث في أماكن أخرى، كانت الزيادة المطلقة في عدد سكان الحضر تمثل تحدياً لقدرة السلطات الحضرية على تلبية الاحتياجات المتزايدة من حيث الإسكان والخدمات. إلا أن رابطات ومنظمات فقراء الحضر الطوعية حققت أوجه تقدم ملحوظة في معالجة هذه المشاكل، وذلك في مواجهة ظروف معاكسة كثيرة.

ويتناقض مسار الهند الحضري تناقضاً حاداً مع نظيره في الصين(25)، حيث كان حجم عدد سكان الحضر محكوماً بصرامة خلال الفترة ما بين عام 1949 وعام 1978، وكانت حياة المدينة هي امتياز تحظى به أقلية. إلا أن السياسات الاقتصادية اللاحقة حبذت الهجرة الساحلية إلى المراكز الحضرية التي تنمو بسرعة في المناطق الاقتصادية الخاصة. وفي نهاية المطاف، تراخت قيود الهجرة من الريف إلى الحضر وانخفض التحيز الرسمي ضد المدن عندما أصبحت قاطرة النمو الاقتصادي السريع في الصين.

والصين الآن مركز صناعي عالمي رئيسي، وتوجد جميع مصانعها تقريباً في المدن أو على مقربة منها. ويوجد في البلد أكثر من 660 مدينة، وفقاً لبيانات الحكومة. ومع أن التفاوتات الاقتصادية بين الحضر والريف قد تكون اتسعت، فإن العيش في المدن لم يعد يحقق مزايا تلقائية. ومن المتوقع أن أكثر من نصف سكان الصين، أي نحو 870 مليوناً، سيصبحون متحضرين في أقل من عقد واحد. وعندئذ سيكون فيها 83 مدينة يزيد عدد سكان كل منها على 000 750، وسيعيش في كل مدينة من ست منها فقط أكثر من 5 ملايين شخص. ووجود كثرة من هذه المدن على الساحل هو مدعاة للقلق، بسبب التأثيرات المتوقعة للاحترار العالمي على الأراضي الساحلية المنخفضة (الفصل 5).

وقد بلغت الصين الآن ذروة تحولها الحضري. وبالنظر إلى انخفاض معدل الخصوبة الحضرية فيها – نتيجة لسياسات تنظيم الأسرة، وارتفاع تكاليف التعليم، وحدوث تحولات في تطلعات سكان الحضر فيما يتعلق بأسلوب الحياة – فإن مساهمة الهجرة من الريف إلى الحضر في النمو الحضري في الصين كانت أهم بكثير مما حدث في معظم البلدان النامية الأخرى. ويقدَّر رسمياً أن حوالي 18 مليوناً يهاجرون من المناطق الريفية إلى المدن كل عام، مع غلبة هجرة الرجال. ونطاق وسرعة هذا التحول غير مسبوقين؛ وتصاحبهما طائفة متنوعة من المشاكل البيئية والاجتماعية، ومع ذلك فإن هذا التحول لا يمكن اجتنابه.

إسناد السياسات إلى حقائق، لا إلى تحيزات

لقد كان واضعو السياسات معنيين كثيراً بسرعة وضخامة النمو الحضري، وهذا أمر يسهل فهمه. وكان كثيرون منهم يفضلون حدوث نمو أبطأ أو عدم حدوث أي نمو على الإطلاق؛ فالنمو الأبطأ من شأنه أن يتيح لهم نظرياً مزيداً من المرونة لمعالجة المشاكل الحضرية. وهم، عموماً، يحاولون إبطاء النمو بتقييد الهجرة الوافدة ولكن نادراً ما ينجح ذلك، مثلما يتضح من المناقشة الواردة في الفصل 3.

وعلاوة على ذلك، تعبِّر هذه المحاولات عن فهم هزيل للجذور الديمغرافية للنمو الحضري. فمعظم الناس يعتقدون أن الهجرة إلى الحضر هي العامل المسيطر؛ ولكن السبب الرئيسي الآن هو في حقيقة الأمر الزيادة الطبيعية بوجه عام. وتسهم أيضاً في النمو الحضري إعادة تصنيف ما كان سابقاً مناطق "ريفية" وما كانوا سابقاً سكاناً "ريفيين" بحيث أصبحت تلك المناطق تعتبر "حضرية" وأصبح أولئك السكان يعتبرون "حضريين".

وفي البلدان النامية، يقف وراء نمو المدن أثناء "الموجة الثانية" (انظر الإطار 2) ارتفاع معدلات الزيادة الطبيعية بالمقارنة بنظيراتها في أوروبا وأمريكا الشمالية إبان ذروة عمليات التحضر فيهما. وأحدث جهد بحثي شامل لفصل الزيادة الطبيعية عن عناصر النمو الحضري الأخرى يحدد مساهمة الزيادة الطبيعية بنسبة تبلغ حوالي 60 في المائة في البلد المتوسط(26). أما الجزء المتبقي من النمو الحضري – حوالي 40 في المائة تقريباً – فهو مزيج من الهجرة وإعادة التصنيف.

ومع مرور الوقت وتزايد تحضر البلدان ترتفع حتماً نسبة النمو الحضري التي تعزى إلى الزيادة الطبيعية. وهذا معناه أن مستوى التحضر في أي بلد كلما ارتفع كلما كانت مجموعة المهاجرين المحتملين من الريف إلى الحضر أصغر وكلما كانت مجموعة المتحضرين الذين يساهمون في الزيادة الطبيعية أكبر.

وتجارب البلدان تتفاوت تفاوتاً كبيراً بطبيعة الحال. ففي الهند، تبين من تقييم أجري مؤخراً لعناصر النمو الحضري في الفترة 1961 – 2001 أن حصة النمو التي تعزى إلى الزيادة الطبيعية الحضرية تفاوتت من 51 في المائة إلى حوالي 65 في المائة على امتداد تلك الفترة(27). وينبع حوالي 65 في المائة من النمو الحضري الحالي في أمريكا اللاتينية من الزيادة الطبيعية، على الرغم من حدوث انخفاضات شديدة في معدلات الخصوبة، خصوصاً في المناطق الحضرية(28). أما الصين، حيث أصبحت الهجرة هي الطاغية مؤخراً، فهي غير عادية(29).

وبالنظر إلى تزايد أهمية الزيادة الطبيعية وفشل السياسات المناهضة للهجرة، يبدو واضحاً أن من الأرجح أن يؤدي انخفاض الخصوبة إلى خفض معدل النمو الحضري، لا أن تؤدي إلى ذلك ضوابط الهجرة. وبالنظر إلى أن ارتفاع معدلات الخصوبة في المناطق الريفية كثيراً ما يكون هو السبب الكامن وراء الهجرة من الريف إلى الحضر فإن انخفاض الخصوبة في كل من المناطق الريفية والحضرية يمكن أن يؤدي إلى حدوث انخفاض في سرعة النمو الحضري. وهذا الانخفاض من شأنه أن يمنح واضعي السياسات مزيداً من الوقت للاستعداد لحدوث زيادة في عدد سكان الحضر.

ولذا ينبغي أن تحوِّل السياسات التي ترمي إلى إبطاء النمو الحضري اهتمامها إلى العوامل الإيجابية التي تؤثر في انخفاض الخصوبة، وهي التنمية الاجتماعية، والاستثمارات في الصحة والتعليم، وتمكين المرأة، وتحسين إمكانية الحصول على خدمات الصحة الإنجابية. ومن المدهش، عند التأمل، أن نرى أن جدول الأعمال هذا قلما أثَّر على القرارات المتعلقة بالسياسات، على العكس من النهج المناهض للهجرة(30). وهذا الموضوع يتناوله الفصل الأخير من هذا التقرير.

 

منقول حرفيا عن صندوق الأمم المتحدة للسكان لغرض توسيع المعرفة والنقاش حول التقرير   

ملاحظات اعضاء التخطيط العمراني على الموضوع من الاحدث الى الاقدم 

4 تعليقات

  1. المهندس طلال الحريقي

    تناول التقرير قصة واقعية تمثل معاناة الكثير من سكان العالم من الفقر والمعاناة التي يوجهونها طمعا في وعد النمو الحضري. استهل التقرير بالتأكيد على إن نصف العالم سوف يكون حضري أي من سكان المدن والبلدات بدلان من الريف والتي كان لها الغلبة. وسوف يزداد سكان المناطق الحضرية بتسارع وعلى وجه الخصوص في البلدان النامية. وعلى عكس وتيرة النمو في المدن والاستقطاب البشري لها تسير الآليات والإدارة الحضرية ببطء بما لا يتناسب مع الضغوط الناشئة عن سرعة التحضر. عزى التقرير نسبة الزيادة بالهجرة من الريف إلى المدن لارتفاع معدل الخصوبة والذي يقل في المدن مما يظهر جليا إن سياسة مناهضة الهجرة قلا تكون الحل بل الاهتمام بتنظيم النمو عن طريق التنمية الاجتماعية والاستثمار في الصحة والتعليم مما يؤدي إلى انخفاض معدل الخصوبة وتحسن الصحة الإنجابية.

  2. Eng. Mohammed Al-Joufie

    المشكلة الاساسية هنا هي ازدياد الهجرة الى المناطق الحضرية بحثا عن حياة افضل وفي معظم الحالات بحثا عن لقمة العيش ، وبالتالي يرضى المهاجرون باي سكن كان حتى ولو كان على الارصفة كما هو الحال في الهند، وبزيادة هذه الهجرة وعدم توفر الخدمات الاساسية للسكان الاصليين عوضا عن هؤلاء المهاجرين ، زاد التكدس السكاني وكثرت الطبقية ونسبة الوفيات وظهرت الاحياء الفقيرة في المدن التي تفتقر الى ادنى مستويات الحياة، اضف الى ذلك عدم وجود برامج فعالة للحد من هجرة السكان من المناطق القروية والريفية واستقطاب الهجرة العكسية من المناطق الحضرية الى هذه المناطق كان له الدور الفعال في زيادة عدد المهاجرين ، واخيرا لو ان هناك مبدأ العدالة في توزيع الخدمات الاساسية في جميع دول العالم فانه سيحقق افضل استغلال للموارد وبالتالي سوف يقضي لن نقول كليا ولكن بنسبة عالية على الفقر في المناطق الحضرية وبالتالي ترتقي هذا المناطق وتظهر التنمية المستدامة بمعناها الحقيقي

  3. قد يكون طرح الموضوع بصيغة تثي انتباه القاريء جدا لانه يتعلق بمصير حياة الانسانوواذا كانت حياة الانسان هي الغاية الاساسية,وان الانظمة والشرائع تؤكد ذلك,ولكن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا الدول الكبرى التي تدعي انها راعية حقوق الانسان تصرف مئات المليارات على سباق التسلح لفناء الانسان, لماذا لاتخصص لبناء الانسان والمحافظة على حياته وتوفير متطلبات الحياة بحدودها الدنيا,وتخليص المريض من مرضه والفقير من عوزه,الله سبحانه وتعالى لم ينسى اي كائن خلقه ولكن الانسان خليفة الله على الارض الا الاجدر بالخليفة ان يكون امينا ومتزنا ويتصرف بعقلانية وهذا هو مفتاح حل مانحن مقبلين عليه من مشاكل ومنها التغير المناخي الذي بدأت اثاره تظهر علينا.

  4. Great hmemar of Thor, that is powerfully helpful!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *